مسودة شرح المحرر حديث ٤
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا رب العالمين.
أما بعد فإن هذه مسودة لتكون عونا لي على إلقاء الدرس ولمن أراد الاستفادة منها وقد تم إعدادها مبدئيا على قدر ما وسع له الوقت وتيسر.
وسيتم مستقبلا تحريرها وإكمالها إن شاء الله تعالى بمراجعة ترقيم الأحاديث وتكميل الشرح لعدد من الأحاديث التي لم أستطع الآن إثبات شرحها ، وبالله التوفيق .
خالد مرغوب 4 رجب 1440
أولا : باب صلاة الكسوف (و فيه خمسة أحاديث)
هذا الباب وما بعده، وصلاة العيدين قبلهما، وأيضا صلاة الجنائز بعد ذلك، هذه أنواع من الصلوات؛ تفعل في بعض الحالات ولا يتكرر في كل يوم وفي كل أسبوع مثل صلاة الجمعة، وذلك من حسن مقاصد الشرعية وأحكامها حيث ترتبط النفوس بعبادة الله سبحانه وتعالى على اختلاف الأحوال ويكون للإنسان مذكرات تذكره بالله سبحانه وتعالى وباليوم الآخر في أحوال مختلفة.
والكسوف؛ أي كسوف الشمس والقمر : وهو ذهاب ضوءهما أو بعض ضوءهما، وإذا جمعا فالأولى أن يقال الكسوف للشمس والخسوف للقمر.
وصلاة الكسوف والخسوف هي من السنن المؤكدة عند الجمهور بل قال بعضهم إنها آكد السنن. وذهب بعضهم إلى وجوبها؛ وهذا قول بعض الحنفية، ووجه عند الحنابلة وقواه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.
وصلاة الخسوف تؤدى جماعة أو فرادى، وكونها جماعة أفضل، وكذلك الاستسقاء.
الحديث الأول
٤٩٢- . عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فَقَالَ النَّاس: انكسفت الشَّمْس لمَوْت إِبْرَاهِيم، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رأيتموهما فَادعوا الله وصلوا حَتَّى ينْكَشف مَا بكم " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَعند البُخَارِيّ: " وصلوا حَتَّى ينجلي "، وَلَيْسَ عِنْد مُسلم: " انكسفت الشَّمْس لمَوْت إِبْرَاهِيم "
شرح الحديث :
إبراهيم هو ابن النبي عليه الصلاة والسلام من مارية القبطية رضي الله عنها، وهو آخر أولاده عليه الصلاة والسلام، وأما خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد رزق منها القاسم وبه كان يكنى، وعبد الله وهو الطيب الطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهم جميعا
عاش إبراهيم ثمانية عشر شهرا، وتوفي في السنة العاشرة، قيل في ربيع الأول، وقيل في رمضان، وقيل في الحج، ورجح بعض المتأخرين أن ذلك كان في شوال، واختلف في تحديد اليوم والأشهر تبعا للواقدي أنه في العاشر من ذي الحجة، ولكن لم يسنده الواقدي بل أرسله، ولو أسنده لم يكن حجة، لضعفه الشديد في الحديث مع كونه إماما في المغازي وسعة علمه، وأيضا قوله أنه في العاشر، هذا مما يستغرب وذلك لأن العادة في الكسوف أن يكون في آخر الشهر.
وتحقيق شيخنا المباركفوري في شرح بلوغ المرام ص ١٤١ بناء على علم الفلك ان الكسوف كان الساعة ثمانية ونصف صباحا يوم ٢٩ من شوال سنة عشر والله اعلم .
قوله "فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم" كان هذا عادة عندهم يعتقدونها أن الكسوف يحدث لموت أحد من العظماء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" علامتان على قدرة الله تعالى وعظمته وأنه الرب المتصرف المدبر للأمور، وأنه ليس لأحد من الربوبية شيء، وهو يسلبهما النور وهو قادر على أن يفعل ذلك ويذهب بهذه الغم عليكمدنيا وتعقبها القيامة.
وهذا التذكير بالآخرة وبقدرة الله، ويظهر ذلك في الكسوف لأنه على خلاف العادة، فالإنسان يتبلد حسه بالشيء الذي يعتاده، ولكنه حينما يأتي الشيء خلاف العادة يتأثر به، وبهذا رد النبي عليه الصلاة والسلام على تلك الأفكار الباطلة، وهذا يدلنا على البدء بالعقيدة في الدعوة، وعلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يبال بمدحهم أو بتعظيمهم له وتفسيرهم للكسوف بأنه بسبب وفاة ابنه، بل رد ذلك، وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يفتري كذبا أو أن يفعل شيئا مبتدعا بدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه، بل النبي غني ، عليه الصلاة والسلام بما آتاه الله من الفضائل الثابتة الصحيحة.
"لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما" إذن الرؤية وما يقوم مقامها من إخبار الثقة هي علة صلاة الكسوف، لا أن يعرف أنه حدث كسوف لكنه يسير جدا بنسبة ضئيلة واحد في المائة مثلا؛ ففي هذه الحالة الأقرب أنه لا تصلى.
"فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف ما بكم" هذا دليل على أن صلاة الكسوف تطوّل بمقدار الكسوف، فلو انجلت الشمس في أثناء الصلاة تخفف الصلاة، ولو طال الكسوف وانتهينا من الصلاة لا نعيد الصلاة ولا نكررها ولكن نستمر في الدعاء.
ما يستفاد من الحديث :
1. الشمس و القمر آيتان من آيات الله مخلوقاته العظيمة، و ليس لهما من الربوبية شيء، و اللع قادر على أن يسلب منهما ضوءهما.
2. البداءة في الدعوة بالتوحيد.
3. عدم جواز الافتراء و لو لقصد مدح النبي ﷺ، و هو غني بما أعطاه الله تعالى من الفضائل الثابتة الصحيحة.
4. العلة لصلاة الكسوف هي الرؤية أو ما يقوم مقامها من الشهادة. و العبرة بالنقص المشاهد، أما نسبة النقص القليلة و الضئيلة فليس معتبرا.
5. تطويل الصلاة بمقدار الكسوف، و التجوز في الصلاة إذا انجلت الشمس قبل الانتهاء من الصلاة. أما إذا انتهى من الصلاة قبل أن تنكشف، فيظل في دعاء الله و استغفاره حتى تنكشف، و لا يعيد الصلاة.
6. فيه المبادرة بالصلاة ، والذكر ، والتكبير ، والصدقة عند وقوع كسوف وخسوف ونحوهما من زلزلة وظلمة شديدة وريح عاصف ، ونحو ذلك من الأهوال .
7. وفيه الزجر عن كثرة الضحك ، والتحريض على كثرة البكاء .
8. وفيه اهتمام الصحابة رضي الله تعالى عنهم بنقل أفعال النبي ﷺ ليقتدى به فيها. وفيه الأمر بالدعاء، والتضرع في سؤاله.
9. وفيه التحريض على فعل الخيرات، ولا سيما الصدقة التي نفعها متعدٍّ.
10. وفيه عظة الإمام للناس عند الآيات ، وأمرهم بأعمال البر.
الحديث الثاني
٤٩٣- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته فَصَلى أَربع رَكْعَات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم.
شرح الحديث :
هذا دليل على أن صلاة الكسوف تكون جهرية, وذهب الجمهور إلى أنها صلاة نهارية فتكون سرا وأن صلاة الخسوف هنا -بالخاء- هي المقصود بها الليلية أي : صلاة خسوف القمر.
هل يجهر في صلاة الكسوف (الشمس) بالقراءة؟
القول الأول : لا، إنما يجهر بالقراءة في الخسوف، لا في الكسوف. إليه ذهب الجمهور.
و أجابوا عن حديث عائشة بأنه مروي بلفظ (الخسوف) و ليس الكسوف، و تمسكا بالأصل في الصلاة النهارية، و بقول ابن عباس : " قرأ نحوا من سورة البقرة " لأنه لو جهر لم يحتج إلى تقدير، و حديث سمرة عند ابن خزيمة و الترمذي " لم يسمع له صوتا "
القول الثاني : نعم، يجهر بالقراءة سواء في الخسوف أو في الكسوف. إليه ذهب صاحبا أبي حنيفة وأحمد و إسحاق و اختاره ابن خزيمة و ابن المنذر و ابن العربي، فهو وجه عند المالكية و الشافعية. و هو الراجح لحديث الباب.
و أجابوا عن قول ابن عباس باحتمال أنه رضي الله عنه لم يسمع قراءة النبي ﷺ لكونه في آخر الصف. و أجيب عما رواه الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي ﷺ في الكسوف، باحتمال كونه نسي ما قرأه النبي بالضبط، مع ضعف أسانيده متصلا، حيث وصله البيهقي بـ3 أسانيد واهية.
و هكذا الجواب عما روي عن سمرة، بأن ذلك لا ينفي الجهر بالقراءة.
و على كل حال، فالمثبت له قدر زائد من العلم، فالأخذ به أولى.
القول الثالث : يخير بين الجهر والإسرار، و هو قول الطبري.
والقول بجهر صلاة الكسوف وأنها مثل الجمعة هو قول الإمام أحمد وصاحبي أبي حنيفة -الإمام أبو يوسف والإمام محمد رحمة الله على الجميع- وهو أيضا وجه عند الشافعية ووجه عند المالكية، واختار هذا القول ابن خزيمة وابن المنذر وابن العربي وأما الجمهور فقالوا إنه يسر بصلاة الكسوف ويجهر بصلاة الخسوف.
والقول بالجهر أرجح، وقد ثبتت رواية الأوزاعي وهي كافية وأيضا جاء من طرق متعددة يعضد بعضها بعضا، وجاء التصريح بجهر صلاة خسوف الشمس والقمر.
"فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات " إذن, في كل ركعة ركوع زائد وهو ركوع سنة والأقرب أنه لا تدرك به الركعة، وهذا هو الأصح، وجاءت روايات في مسلم أنه صلى -عليه الصلاة والسلام- في كل ركعة ثلاثة؛ يعني زاد على هذه الركوعات ولكنه شاذ عند الجمهور.
وذهب الحنفية إلى أنها تصلى ركعتين كصلاة الفجر من دون زيادة ركوع، وهذا جائز ولكن الأولى والأرجح أنه تصلى أربع ركوعات؛ أي ركعتين في كل ركعة ركوعان.
إذاً إذا صلى هذه الركعات فكيفية الصلاة كما سيأتي في الحديث الذي بعده.
ما يستفاد من الحديث :
1. الصفة المذكورة في حديث الباب هي الراجح في صفة صلاة الكسوف، و هي بركعتين و أربع ركوعات و أربع سجدات. خلافا للحنفية الذين قالوا بأنها تصلى كهيئة صلاة الفجر، و خلافا للروايات الأخرى الشاذة التي جاءت بأكثر من أربع ركوعات.
2. الأظهر أن الركوع الثاني من كل ركعة هي سنة، فلا تدرك به الركعة.
3. قوله « فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم » استدل به بعضهم على أنه ﷺ كان يحافظ على الوضوء ، فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال. و محافظته على الوضوء هي مقتضى حاله وجلالة قدرهﷺ .
الحديث الثالث
٤٩٤- وَعَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " انخسفت الشَّمْس عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَصَلى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَامَ قيَاما طَويلا، [نَحوا من قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة] ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا، ثمَّ رفع فَقَامَ طَويلا، وَهُوَ دون الْقيام الأول، ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا، وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول، ثمَّ سجد، [ثمَّ قَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول: ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول، ثمَّ رفع فَقَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول، ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول، ثمَّ سجد] ثمَّ انْصَرف وَقد تجلت الشَّمْس فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فاذكروا الله، قَالُوا: يَا رَسُول الله رَأَيْنَاك تناولت شَيْئا فِي مقامك ثمَّ رَأَيْنَاك تكعكعت؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنِّي رَأَيْت الْجنَّة فتناولت عنقوداً وَلَو أصبته لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدُّنْيَا، وأريت النَّار فَلم أر منْظرًا [كَالْيَوْمِ] قطّ أفظع، وَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا النِّسَاء، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بكفرهن! قيل: يكفرن بِاللَّه؟ قَالَ: يكفرن العشير ويكفرن الْإِحْسَان، لَو أَحْسَنت إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْر كُله ثمَّ رَأَتْ مِنْك شَيْئا قَالَت: مَا رَأَيْت مِنْك خيرا قطّ " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ
شرح الحديث :
فهذه الكيفية جاء فيها ركوعان في كل ركعة، وأما تكرار الركوع يعني أن يكون أكثر من ذلك، فهذا لعله مرجوح ويبعد لأن الخسوف كان مرة واحدة.
قوله في الحديث "انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة"
هذا من أدلة الجمهور على أنه كانت القراءة سرا، ولكن يجيب الحنابلة ومن قال بقولهم لعله كان بعيدا عن الصفوف أو نسي ما كان في القراءة فعبر بأنه نحو من سورة البقرة لطوله، أي : أنه قرأ أكثر من سورة فكان المجموع بمقدار قريب من سورة البقرة.
"نحوا من سورة البقرة" إذن؛ تكون القراءة طويلة. إذن أول شيء تكون الصلاة جهريةً ولو في كسوف الشمس، ثاني شيء يقرأ بعد الفاتحة سورة طويلة.
"ثم ركع ركوعا طويلا" بعض العلماء قال : يركع ركوعا طويلا، بعضهم قال : بقدر معظم القراءة.
"ثم رفع" كيف يرفع؟ يرفع فيقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد.
ثم يقرأ الفاتحة مرة أخرى بعد الاستعاذة على الأقوى يقرأ الفاتحة وهذا مذهب الجمهور، وفي رواية عن مالك رحمه الله لا يقرأ الفاتحة هنا -أي لا يقرأها مرة ثانية-.
"ثم رفع فقام طويلا وهو دون القيام الأول" أي أنه يقرأ سورة طويلة ولكن نسبته في القراءة الأولى أقل وهل يكون هناك قراءة في القيام الثاني نقول : نعم، مذهب الجمهور لا بد من قراءة الفاتحة في القيام الثاني ولا تصح دون ذلك.
"ثم ركع ركوعا طويلا" هذا الركوع الثاني مسنون والراجح ثبوته خلافا لقول الحنفية، ولكنه سنة زائدة لا تدرك به الركعة على الأقوى والله أعلم.
"ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد "وهذا السجود لم يأت في هذه الرواية تطويله، وكذالك لم يذكر في هذه الرواية التطويل في الاعتدال بعد الركوع الثاني، ولم يذكر فيها التطويل في الجلسة بين السجدتين ولا في التشهد. وذهب الجمهور إلى ذلك.
هنا لاحظوا ؛ ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول (هذا الركوع الثاني) ثم ركع قبله أيش؟ قبله الاعتدال. هذا الاعتدال ذهب الجمهور إلى أنه لا يطول. ولكن في وجه عند الشافعية، واختاره النووي، وأيضا هو ترجيح شيخنا ابن العثيمين رحمه الله إلى أنه يطول القيام الثاني، وأيضا يطول السجود، وأيضا يطول في الجلسة بين السجدتين. والجمهور يقولون لا يطول هذه المواضع، وأنه ما جاء في بعض الروايات من أنه: "ثم رفع فأطال قبل السجود" في مسلم، وأنه من رواية أبي الزبير عن جابر وتكلموا فيها، ولكن يرده أنه جاء في حديث عائشة رضي الله عنها نحوه عند النسائي، أو أنها إطالة يسيرة، أو أنها إطالة نادرة والله أعلم.
و الأظهر أن التطويل يكون في كل أركان الصلاة، و لكن مع التناسق، و هذا وجه عند الشافعية، و هو الذي رجحه النووي و هو اختيار الشيخ العثيمين.
وقد صحح النووي تطويل السجود في « الروضة » ، فقال : الصحيح المختار أنه يطول ، وكذا صححه في « شرح المهذب » ، وفي « المنهاج » من زياداته ، واقتصر في « تصحيح التنبيه » على المختار.
قال:ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس. فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروالله."
هل كان هذا خطبة؟ هذا يدل على وجود الخطبة وهو قول مالك والشافعي واختاره شيخنا ابن العثيمين، وهو رواية عن أحمد رحمة الله على الجميع خلافا للحنفية والحنابلة قالو:لا خطبة في الكسوف، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر فقال:"فادعو الله وصلوا" ولم يأمر بالخطبة. ولكن هذه الرواية ترد على هذا القول فيقولون إنها لم تكن خطبة وإنما كانت إزالة لهذا الإشكال في ظنهم أنه حصل الكسوف لوفاة ابنه صلى الله عليه وسلم.
طيب، بعده قال:"فإذا رأيتم ذلك فاذكرو الله" قالوا:يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت (أي:تأخرت) قال:"إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبتم لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفضع ورأيت أكثر أهلها النساء" قالوا:لم يا رسول الله؟ قال:"بكفرهن" قيل:يكفرن الله؟ قال:"يكفرن العشير (أي:الزوج) ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداكن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت:ما رأيت منك خيرا قط" متفق عليه واللفظ للبخاري.
وهذا الخلق الذميم وهو اللؤم وإنكار الفضل مذموم وهو من الكبائر. وفي هذا وعيد. ويشترك فيه النساء والرجال، ولكنه يكثر حصوله في النساء. ولذا ذكر. ولو حصل من الرجال لكان مذموما بل أشد في الذم.
الحديث الرابع
٣٩٥– وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:أنه صلى في كسوف قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع ثم سجد، قال:والأخرى مثلها. رواه مسلم.
شرح الحديث :
هذا يدل على تكرار الركوع أربعا في ركعة واحدة. وفي لفظ له صلى رسول الله حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك. وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال:أصح رواية عندي في صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات. وهذا هو المعتمد.
ويلاحظ، أن من الفروق بين صلاة الكسوف والصلوات المعتادة هذه الزيادة (أي:زيادة الركوع) فالقول بأن صلاة الكسوف كصلاة الفجر هذا قول مرجوح، وكذلك زيادة الركوعات على ركعتين في كل ركعة أيضا قول مرجوح. والله أعلم.
والكسوف يكون في المسجد وأما الاستسقاء كالعيد فيكون في المصلى.
الحديث الخامس
٣٩٦– وعن عائشة رضي الله عنها:أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديا: الصلاة جامعة! فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات متفق عليه واللفظ لمسلم.
شرح الحديث:
الصلاة جامعة مبتدأ وخبر. أو الصلاة جامعة:الصلاة منصوب على الإغراء، وجامعة على الحال. فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. أربع سجدات منصوب معطوف على أربع ركعات. إذا هذا يدل على أنه لا أذان في صلاة الكسوف ولكن ينادى لها لأنها تأتي فجأة فينادى لها. وأما العيد والاستسقاء فذهب بعض العلماء إلى قياسهما على صلاة الكسوف، وأنه يقال فيهما "الصلاة جامعة". والأقرب أن النفوس متهيئة في صلاة العيد وصلاة الاستسقاء والناس مجتمعون فلا نداء فيهما، وإنما هذا النداء المختصر (أي:الصلاة جامعة) يكون في الكسوف وحده... والله أعلم.
ثانيا : باب صلاة الاستسقاء وفيه (٩) أحاديث.
التمهيد :
صلاة الاستسقاء : الدعاء لطلب السقيا من الله تعالى. سببها : إذا أجدبت الأرض و قحط المطر و تأخر نزوله عن أول زمانه.
حكمها سنة مؤكدة و الأفضل أن تصلى جماعة و إن صلاها منفردا فقد أدى هذه السنة. و ذهب الحنفية إلى أنها تصلى منفردا و لا تصلى بالصفة التي سنذكرها و هو رواية عن أبي يوسف، و المعتمد في المذهب قول محمد بن الحسن أن الاستسقاء تصلى بالصفات المذكورة في الأحاديث الآتية و أنها مستحبة كما ذكره ابن عابدين في حاشيته اتباعا للصاحبين ، و أن أبا حنيفة قد عدها شاذة أو لم تبلغه ، و المعتمد عند المتأخرين استحباب صلاة الاستسقاء، و هو أقل من السنة المؤكدة.
الحديث الأول:
497 - عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن كنَانَة قَالَ: أَرْسلنِي أَمِير من الْأُمَرَاء إِلَى ابْن عَبَّاس يسْأَله عَن الصَّلَاة فِي الاسْتِسْقَاء؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَا مَنعه أَن يسألني؟ " خرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعا فَصَلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيد لم يخْطب خطبكم هَذِه " رَوَاهُ أَحْمد وَهَذَا لَفظه، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، (وَالتِّرْمِذِيّ وَ صَححهُ) ، وَأَبُو عوَانَة فِي " صَحِيحه "، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم.
والحديث قال عنه الترمذي: "حسن صحيح"
قال الحاكم في المستدرك : "هَذَا حَدِيثٌ رُوَاتُهُ مِصْرِيُّونَ وَمَدَنِيُّونَ ، وَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مَنْسُوبًا إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْجَرْحِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ"
و هشام بن إسحاق، قال فيه أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: "صدوق"، وقال الحافظ: "مقبول".
فحديث الباب حسن، و يحمل قول الترمذي على أن بهذا الإسناد حسن و هو صحيح بالشواهد، فالقصة بمجموعها ثابتة.
شرح الكلمات :
(أمير من الأمراء)، جاء تسميته عند أحمد و أبي داود و الترمذي و أبي عوانة و الحاكم، و هو أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب القرشي.
(متبذلا) بتقديم التاء على الموحدة أي لابسا لثياب البذلة تاركا لثياب الزينة تواضعا لله تعالى. التبذل والابتذال ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع. و لا يدل على ترك الطيب عند الشيخ العثيمين، و لكن الجمهور من الشافعية و الحنابلة و غيرهم قالوا بالاكتفاء بالنظافة و ترك الطيب لأنه نوع من التزين.
(متخشعا مترسلا) أي : متأنيا لا يستأجل.
(متضرعا) أي مظهرا للضراعة وهي التذلل عند طلب الحاجة و الإلحاح في الدعاء.
شرح الحديث :
في عون المعبود : (فلم يخطب خطبكم هذه) النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة.
وقال الزيلعي مفهوم الحديث أنه خطب لكنه لم يخطب كما يفعل في الجمعة ولكنه خطب الخطبة واحدة فلذلك نفى النوع ولم ينف الجنس ولم يرو أنه خطب خطبتين فلذلك قال أبو يوسف يخطب خطبة واحدة ومحمد يقول يخطب خطبتين ولم أجد له شاهدا انتهى .
فالأرجح أن المعنى : أنه لم يطل في خطبته و بل كان أكثر كلامه دعاء و استغفارا، أو أنه لم يخطب خطبتين.
و ذهب طائفة من أهل العلم منهم الإمام أحمد إلى أن الخطبة واحدة فقط، و عند مالك و الشافعي و رواية عن أحمد أنها خطبتان.
و قيل أن المقصود أن الخطبة بعد الصلاة كالعيد و ليس كالجمعة.
(ثم صلى ركعتين) فيه دليل على استحباب الصلاة لم يخالف فيه إلا الحنفية.
(كما يصلي في العيد) تمسك به الشافعي ومن معه في مشروعية التكبير في صلاة الاستسقاء كتكبير العيد وتأوله الجمهور على أن المراد كصلاة العيد في عدد الركعة والجهر بالقراءة وكونها قبل الخطبة، و الأول أقرب و الله أعلم.
الحديث الثاني:
498 - وَعَن عَائِشَة قَالَت: " شكت النَّاس إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قُحُوط الْمَطَر، فَأمر بمنبر فَوضع لَهُ فِي الْمُصَلى ووعد النَّاس يَوْمًا يخرجُون فِيهِ، قَالَت عَائِشَة: فَخرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حِين بدا حَاجِب الشَّمْس، فَقعدَ عَلَى الْمِنْبَر وكبّر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَحمد الله عَزَّ وَجَلَّ ثمَّ قَالَ: إِنَّكُم شكوتم جَدب دِيَاركُمْ واستئخار الْمَطَر عَن إبّان زَمَانه عَنْكُم، وَقد أَمركُم الله عَزَّ وَجَلَّ أَن تَدعُوهُ ووعدكم أَن يستجيب لكم! [ثمَّ] قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدَّين، لَا إِلَه إِلَّا الله يفعل مَا يُرِيد، اللَّهُمَّ أَنْت الله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، (أَنْت) الْغَنِيّ وَنحن الْفُقَرَاء، أنزل علينا الْغَيْث (وَلَا تجعلنا من القانطين) ، وَاجعَل مَا أنزلته لنا قُوَّة وبلاغاً إِلَى حِين، ثمَّ رفع يَدَيْهِ فَلم يزل فِي الرّفْع حَتَّى بدى بَيَاض إبطَيْهِ، ثمَّ حوّل إِلَى النَّاس ظَهره وقلب - أَو حوّل - رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ، ثمَّ أقبل عَلَى النَّاس وَنزل فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ الله سَحَابَة فَرعدَت وَبَرقَتْ ثمَّ أمْطرت بِإِذن الله، فَلم يَأْتِ مَسْجده حَتَّى سَالَتْ السُّيُول، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتهمْ إِلَى الْكن ضحك رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه فَقَالَ: أشهد أَن الله عَلَى كل شَيْء قدير وَأَنِّي عبد الله وَرَسُوله " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: (هَذَا حَدِيث غَرِيب، إِسْنَاده جيد)) .
الحديث حسن، لأن فيه القاسم بن مبرور وخالد بن المزار وهما صدوقان حسنا الحديث، وقد أخرجه أيضا الطحاوي والطبراني والحاكم والبيهقي كلهم بهذا الإسناد.
[1] حتى يأتوا و قد أثر فيهم رجوعا إلى الله تعالى، و لأن دعوة الصائم لا ترد كما ورد عند ابن ماجه و الترمذي –و حسنه-، و لأن الصوم يهيئ الناس يخرجون على الهيئة المناسبة و هو التواضع و التبذل و رقة القلب و انكسار القلب، و جاء عند عبد الرزاق أن عمر بن عبد العزيز كان يأمر الناس بالصوم عند الاستسقاء. و عند ابن الجوزي و الشيخ العثيمين فلا يرى أمر الناس بالصوم، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم مع وجود المقتضى في زمانه.
شرح الكلمات:
(مَالك يَوْم الدَّين) قال أبو داود : "أهل المدينة يقرؤون {مالك يوم الدين} وإن هذا الحديث حجة لهم."
قال ابن مجاهد في كتابه "السبعة" ص 104: اختلفوا في قوله: {مالك يوم الدين} فقرأ عاصم والكسائي (مالك يوم الدين) بألف، وقرأ الباقون (ملك) بغير ألف.
(الكن): بكسر الكاف وتشديد النون: ما يرد به الحر والبرد من المساكن.
(قحوط المطر) احتباس المطر وفقده. في القاموس : القحط احتباس المطر.
(المصلى) المكان خارج البلد و ليس مسجدا.
(حاجب الشمس) في القاموس حاجب الشمس ضوءها أو ناحيتها انتهى
وإنما سمي الضوء حاجبا لأنه يحجب جرمها عن الإدراك.
(جدب دياركم) بفتح الجيم وسكون المهملة أي قحطها.
(واستيخار المطر) أي تأخره.
قال الطيبي : والسين للمبالغة يقال استأخر الشيء إذا تأخر تأخرا بعيدا.
(عن إبان زمانه) بكسر الهمزة وتشديد الباء أي وقته من إضافة الخاص إلى العام يعني عن أول زمان المطر، وإلا بان أول الشيء.
قال في النهاية قيل نونه أصلية فيكون فعالا وقيل زائدة فيكون فعلان من آب الشيء يؤب إذا تهيأ للذهاب
وفي القاموس إبان الشيء بالكسر حينه أو أوله
(قوة) أي بالقوت حتى لا نموت والمعنى اجعله منفعة لنا لا مضرة علينا (وبلاغا) أي زادا يبلغنا (إلى حين) أي من أحيان آجالنا.
(وقلب) بالتشديد (أو حول رداءه) شك من الراوي.
(فأنشأ الله سحابة) أي أوجد وأحدث (فرعدت وبرقت) بفتح الراء أي ظهر فيها الرعد والبرق فالنسبة مجازية قال في النهاية برقت بالكسر بمعنى الحيرة وبالفتح من البريق اللمعان.
شرح الحديث :
(فأمر بمنبر إلخ) فيه استحباب الصعود على المنبر لخطبة الاستسقاء
(ووعد الناس يوما) أي عينه لهم، ليتأهبوا و يردوا المظالم و يتوبوا إلى الله و يتصدقوا و يصوموا،
حتى يأتوا و قد أثر فيهم رجوعا إلى الله تعالى، و لأن دعوة الصائم لا ترد كما ورد عند ابن ماجه و الترمذي –و حسنه-، و لأن الصوم يهيئ الناس يخرجون على الهيئة المناسبة و هو التواضع و التبذل و رقة القلب و انكسار القلب، و جاء عند عبد الرزاق أن عمر بن عبد العزيز كان يأمر الناس بالصوم عند الاستسقاء. و عند ابن الجوزي و الشيخ العثيمين فلا يرى أمر الناس بالصوم، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم مع وجود المقتضى في زمانه.
ويستحب للإمام أن يجمع الناس ويخرج بهم إلى خارج البلد .
وقد أخرج الحاكم وأصحاب السنن عن بن عباس أن النبي صنع في الاستسقاء كما صنع في العيد وظاهره أنه صلاها وقت صلاة العيد كما قال الحافظ.
وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها قال في الفتح والراجح أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد لكنها مخالفة بأنها لا تختص بيوم معين.
ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة , وأفاد ابن حبان بأن خروجه للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة.
(حين بدا حاجب الشمس) فيه استحباب الخروج لصلاة الاستسقاء عند طلوع الشمس.
(وقد أمركم الله) يريد قول الله تعالى ادعوني أستجب لكم
(ثم قال الحمد لله) فيه دليل على عدم افتتاح الخطبة بالبسملة بل بالحمدلة ولم تأت رواية عنه أنه افتتح الخطبة بغير التحميد كما في السبل.
و في رواية عن الحنابلة و الشافعية أنها تبدأ بالتكبير، و روي عن الشافعية بالاستغفار.
(ثم رفع يديه ... إلخ) فيه استحباب المبالغة في رفع اليدين عند الاستسقاء.
(ثم حول إلى الناس ظهره) فيه استحباب استقبال الخطيب عند تحويل الرداء القبلة.
والحكمة في ذلك التفاؤل بتحوله عن الحالة التي كان عليها، و هي المواجهة للناس إلى الحالة الأخرى و هي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحال الذي هم فيه وهو الجدب بحال آخر وهو الخصب.
الحديث الثالث :
499 - وَعَن أنس بن مَالك قَالَ: " كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَا يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من دُعَائِهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء، وَإنَّهُ يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُرى بَيَاض إبطَيْهِ " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.
شرح الحديث :
قوله إلا في الاستسقاء ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء .
فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى وحمل حديث أنس على نفى رؤيته وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره . وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، أما الرفع البليغ فيدل عليه قوله حتى يرى بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه .
وأما صفة اليدين في ذلك، فلما رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء.
و لأبي داود من حديث أنس أيضا كان يستسقي هكذا ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
قال النووي : قال العلماء السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء. انتهى.
وقال غيره الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرا لبطن كما قيل في تحويل الرداء أو هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض.
الحديث الرابع :
500 - وَعنهُ " أَن رجلا دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة من بَاب نَحْو دَار الْقَضَاء - وَرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَائِم يخْطب - فَاسْتقْبل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَقَالَ: يَا رَسُول الله هلك المَال، وجاع الْعِيَال، فَادع الله لنا! فَرفع يَدَيْهِ، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، قَالَ أنس: وَلَا وَالله وَلَا نرَى فِي السَّمَاء من سَحَابَة وَلَا قزعة وَمَا بَيْننَا وَبَين سلع من بَيت وَلَا دَار، قَالَ: فطلعت من وَرَاءه سَحَابَة مثل الترس، فَلَمَّا توسطت السَّمَاء انتشرت ثمَّ أمْطرت، فَلَا وَالله مَا رَأينَا الشَّمْس سبتاً، ثمَّ دخل رجل من ذَلِك الْبَاب فِي الْجُمُعَة الْمُقبلَة وَرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَائِم يخْطب فَاسْتَقْبلهُ قَائِما، فَقَالَ: يَا رَسُول الله هَلَكت الْأَمْوَال وانقطعت السبل فَادع الله عَزَّ وَجَلَّ يمْسِكهَا عَنَّا! قَالَ فَرفع رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا،اللَّهُمَّ عَلَى الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشّجر، قَالَ فأقلعت وَخَرجْنَا نمشي فِي الشَّمْس، قَالَ شريك: فَسَأَلت أنسا أهوَ الرجل الأول؟ قَالَ: لَا أَدْرِي " مُتَّفق عَلَيْهِ.
شرح الحديث :
(من باب كان نحو دار القضاء) فسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمارة، وليس كذلك وإنما هي دار بيعت لقضاء دين عمر رضي الله عنه الذي كتب على نفسه في بيت المال وأوصى أن يباع فيه ماله، فباع ابنه عبد الله من جملة ماله لأداء هذا الدين، باعها لمعاوية ثم صارت لمروان، ثم طال ذلك فقيل لها دار القضاء.
وجاء في تسميتها دار القضاء قول آخر : أن دار القضاء لعبد الرحمن بن عوف. وإنما سميت دار القضاء لأن عبد الرحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر فيها، فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية بن أبي سفيان.
(نحو) قيل: أنها أمام غرفة الصديق رضي الله عنه أي باب الصديق رضي الله عنه.
وقيل: أن هذا الدخول من جهة باب الرحمة المعروف الآن.
(هلكت الأموال) و في رواية : (المواشي) وهو المراد بالأموال هنا لا الصامت
(وانقطعت السبل) المراد بذلك : أن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها، وقيل المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يحملونه يجلبونه إلى الأسواق
(فادع الله يغيثنا) أي : فهو يغيثنا وهذه رواية الأكثر، فيكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو. و رويت : (أن يغيثنا) و (يغثنا) بالجزم على أنه جواب الشرط. ويجوز الضم في يغيثنا على أنه من الإغاثة وبالفتح على أنه من الغيث، ويرجح الأول قوله : (اللهم أغثنا). وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث، والمعروف في كلام العرب غثنا لأنه من الغوث.
(فرفع يديه) زاد النسائي في رواية سعيد عن يحيى بن سعيد ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون.
(اللهم أغثنا) أعاده ثلاثا في هذه الرواية و رويت أن الإعادة مرتان فقط، والأخذ بالزيادة أولى، ويرجحها ما علم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا.
(قزعة) بفتح القاف والزاي بعدها مهملة، أي : سحاب متفرق و صغير.
(و لا بيننا و بين سلع) سلع بفتح المهملة وسكون اللام، جبل معروف بالمدينة شمال المسجد النبوي، وهو في آخر شارع سلطانة قبل النفق على اليمين.
وبعده جبل سليع، وعنده كان سوق المدينة في ذلك الوقت إلى مسجد الغمامة.
(من بيت و لا دار) أي : يحجبنا عن رؤيته، و أشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا غيره.
(فطلعت) أي : ظهرت.
(من ورائه) أي من وراء الجبل.
(مثل الترس) أي مستديرة وليس المقصود مثله في القدر. و الترس : الشيء الذي يستعمله المحارب يدفع به الأعداء أو أنه آلة تكون عند المحارب في يده يحمي به نفسه.
(فلما توسطت السماء انتشرت) هذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق فانبسطت حينئذ وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر.
(ما رأينا الشمس سبتا) كناية عن استمرار الغيم الماطر.
و السبت يعني أحد الأيام، والمراد به الأسبوع وهو من تسمية الشيء باسم بعضه
(ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة) ظاهره أنه غير الأول لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد.
قول الرجل الثاني : (هلكت الأموال وانقطعت السبل) أي : بسبب غير السبب الأول والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم الرعي أو لعدم ما يكنها من المطر. وأما انقطاع السبل فلتعذر سلوك الطرق من كثرة الماء و كون الطرق زلقة بسبب الطين.
(اللهم حوالينا) بفتح اللام، فيه حذف تقديره : اجعل أو أمطر والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور
(ولا علينا) فيه بيان للمراد بقوله حوالينا لأنها تشمل الطرق التي حولهم فأراد إخراجها بقوله : (ولا علينا). و هو تأكيد على زيادة الإلحاح على الله تعالى.
(الآكام) الإكام بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد، جمع أكمة بفتحات و هو التراب المجتمع مثل الجيل الصغير. و قيل أن الآكام دون الجبال وأعلى من الرابية، فالآكام روابي صغار.
(الظراب) بكسر المعجمة وآخره موحدة، جمع ظرب بكسر الراء وقد تسكن، هو الجبل المنبسط ليس بالعالي.
(بطون الأودية) والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به.
(منابت الشجر) أي يسأل أن يكون المطر مما ينتفع به ولا يحصل به الضرر، وذلك في رؤوس الجبال يجتمع في الأودية ويبقى الناس ينتفعون بعد ذلك.
(فأقلعت) أي توقفت
ما يستفاد من الحديث :
1. (فقال يا رسول الله) هذا يدل على أن السائل كان مسلما، فانتفى أن يكون أبا سفيان، فإنه حين سؤاله لذلك كان لم يسلم
2. فيه جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة وفيه القيام في الخطبة وأنها لا تنقطع بالكلام ولا تنقطع بالمطر.
3. فيه قيام الواحد بأمر الجماعة وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم وترك الابتداء بالسؤال.
4. فيه سؤال الدعاء من أهل الخير ومن يرجى منه القبول وإجابتهم لذلك.
5. وفيه تكرار الدعاء ثلاثا.
6. فيه إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة، و الدعاء به على المنبر، ولا تحويل فيه ولا استقبال والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء.
7. فيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقبه أو معه.
8. فيه الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقا لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع.
9. فيه أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يتسخطها لعارض يعرض فيها بل يسأل الله رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة.
10. فيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل، وإن كان مقام الأفضل التفويض صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بما وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضا لربه ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه في ذلك بيانا للجواز.
11. فيه جواز الصياح في المسجد بسبب الحاجة المقتضية لذلك.
12. فيه أن الاستسقاء لا تشرع فيه صلاة. قال به أبو حنيفة، و تعقب بأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء لا ينافي مشروعية الصلاة لها وقد بينت في واقعة أخرى كما تقدم.
قال ابن بطال : فيه الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء، وتعقب بالرواية التي تقدمت عند النسائي : (ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون)
الحديث الخامس :
501 - وَعَن عبد الله بن زيد الْمَازِني قَالَ: " خرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَى الْمُصَلى فَاسْتَسْقَى وحوّل رِدَاءَهُ حِين اسْتقْبل الْقبْلَة وَصَلى رَكْعَتَيْنِ، وَفِي لفظ: وقلب رِدَاءَهُ، وَفِي لفظ: وَجعل إِلَى النَّاس ظَهره يَدْعُو الله " مُتَّفق عَلَيْهِ وَاللَّفْظ لمُسلم. وَفِي البُخَارِيّ: " ثمَّ صَلَّى لنا رَكْعَتَيْنِ، جهر فيهمَا بِالْقِرَاءَةِ ". وَله " فَقَامَ فَدَعَا الله قَائِما ثمَّ توجه قِبَل الْقبْلَة وحوّل رِدَاءَهُ فأسقوا ". وَلأَحْمَد: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استسقى وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ بأسفلها فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا فَثقلَتْ عَلَيْهِ فقلبها عَلَيْهِ: الْأَيْمن عَلَى الْأَيْسَر والأيسر عَلَى الْأَيْمن ". وَلأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ نَحوه.
شرح الكلمات :
(وعليه خميصة سوداء) أي كساء أسود مربع له علمان في طرفيه من صوف وغيره . و سوداء صفة لخميصة. وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة وكانت من لباس الناس قديما.
وهذا يدل على لبسه للرداء عليه الصلاة والسلام كان على المنكبين من غير الاشتمال أي من غير أن يكون مشتملا أي محيطا به ولا متعطفا إياه، ولم يكن عادته أن يجعل طرفه على الطرف الآخر.
بعض مسائل الحديث :
اتفق فقهاء الأمصار على مشروعية صلاة الاستسقاء وأنها ركعتان إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال يبرزون للدعاء والتضرع وإن خطب لهم فحسن ولم يعرف الصلاة هذا هو المشهور عنه ونقل أبو بكر الرازي عنه التخيير بين الفعل والترك وحكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء والبروز إلى ظاهر المصر لكن حكى القرطبي عن أبي حنيفة أيضا أنه لا يستحب الخروج وكأنه اشتبه عليه بقوله في الصلاة. اهـ
[واستدل به على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة وهو مقتضى حديث عائشة و ابن عباس المذكورين، و لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة وكذا في حديث أبي هريرة عند بن ماجه حيث قال فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة و هو المرجح عند الشافعية والمالكية و هو رواية عن أحمد مستدلين بتلك الأحاديث و قياسا على خطبة العيد، و حملوا الكلام الذي ورد قبل الصلاة أنه دعاء و استغفار و ليس خطبة. وروي عنه أيضا أنه على التخيير و اختاره الشوكاني و الشيخ العثيمين.]
و يمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء وبعضهم على شيء وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة فلذلك وقع الاختلاف .
وقال القرطبي : يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة لمشابهتها بالعيد وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة .
ولم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني من حديث بن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد وأنه يقرأ فيهما بسبح وهل أتاك، وفي إسناده مقال، لكن أصله في السنن بلفظ : "ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد"
فأخذ بظاهره الشافعي فقال يكبر فيهما. ونقل الفاكهي عن الشافعي استحباب التكبير حال الخروج إليها كما في العيد وهو غلط منه عليه.
(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة) هذا يدل على وقت تحول الرداء وذلك عند الدعاء سواء قبل الصلاة أو بعدها أو بعد الخطبة، فإنه سيحول رداءه ويدعو، ويكون هذا التحويل وهو مستقبل القبلة ويجعل أيدي الناس ظهره. يدعو الله سرا وهذا أخشع ويحول رداءه تفاؤلا إلى المطر سينزل قريبا، وكان من عادتهم يقلب الباطن ظاهرا والظاهر باطنا إذا توقعوا نزول المطر خوفا على جمال الظاهر. لأن العادة الجهة الظاهرية يكون أجمل فيخشى أن تتأثر بالمطر.
إذن القلب تفاؤل وهو مما يسن فعله للمصلي أيضا. وبعض العلماء قال: إنه خاص بالإمام، ولكن الأول أرجح.
الحديث السادس
502 - وَعَن أنس: " أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ إِذا قُحطوا استسقى بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نتوسل إِلَيْك بنبينا فتسقينا وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعم نَبينَا فاسقنا فيسقون " رَوَاهُ البُخَارِيّ: وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (لم يروه غير الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه، وَأَبُوه عبد الله بن الْمثنى لَيْسَ بِالْقَوِيّ)) .
الأنصاري هو محمد بن عبد الله، يروي هذا الحديث عن أبيه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، و هو يرويه عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك.
و عبد الله بن المثنى قال فيه الدارقطني : "ليس بالقوي"، و قاله غيره كالحافظ في (التهذيب) و في (الهدي) أن فيه ضعفا و أنه يخطئ. و قال النسائي : "ليس بالقوي"، و قال أبو داود : "لا أخرج حديثه"، و جاء عن ابن معين في رواية : "ليس بشيء"، و عن الساجي : "فيه ضعف روى مناكير".
و لكن جاء الثناء عليه أيضا في رواية أخرى عن ابن معين و أبي زرعة، و قال أبو حاتم فيه : "صالح"، و ذكره ابن حبان في (الثقات) و قال : "ربما يخطئ".
و قد اختلف عن الدارقطني في هذا الراوي، إذ ورد عنه أنه قال فيه : "ثقة حجة" كما في (سؤالات الحاكم على الدارقطني) و نقله الحافظ في (التهذيب).
و تلخص الحافظ في الحكم عليه، فقال في (التقريب) : "صدوق كثير الغلط." و قال في (الهدي) : "احتج به البخاري في روايته عن عمه ثمامة" و المعتمد أن الحديث إذا كان في (البخاري) فإنه جاوز القنطرة، و لكن قد يحتاج البخاري براو فيه شيء من الضعف، لأنه رأى أنه يضبط هذا الحديث بعينه. و الله أعلم.
شرح الكلمات :
(كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط .
وقد أخرج الزبير بن بكار في الأنساب من طريق داود عن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب ...
وذكر بن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة 18 هـ، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر.
ما يستفاد من الحديث :
1. استحباب الاستشفاع و التوسل بدعاء الأحياء من أهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة.
2. استحباب تقديم من شأنه مظنة الاستجابة لصلاة الاستسقاء.
3. فضل العباس.
4. فضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه.
الحديث السابع :
503 - وَعَن عَائِشَة: " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َكان إذا رأى المطر قَالَ: "صيبا نافعا" رواه البخاري.
شرح الكلمات :
(صيّبا) : ما سال من المطر وجرى، و قيل هو سيْبا أي عطاء.
(نافعا) احترازا مما يحصل به الضرر.
فيه سنية الدعاء عند نزول المطر، والدُّعاء في الازدياد في الخير والبركة والنفع به.
الحديث الثامن :
504 – عن أنس قال : أصابنا و نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مطر، فحسر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثَوْبه حَتَّى أَصَابَهُ الْمَطَر، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله لم صنعت هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيث عهد بربه " رَوَاهُ مُسلم.
شرح الكلمات :
(حسر) كشف الملابي عن بعض بدنه.
(حديث عهد بربه) قال النووي : أي بتكوين ربه إياه. ومعناه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها.
و الأقرب أنه جديد لم يتأثر بملامسة شيء، أو أنه دليل على القرب من الله تعالى. أما ما قاله النووي، فلا فرق إذن بين المطر و بين غيره، و الله أعلم.
ما يستفاد من الحديث :
1. قال النووي رحمه الله : في هذا الحديث دليل لقول أصحابنا أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف غير عورته ليناله المطر واستدلوا بهذا وفيه أن المفضول إذا رأى من الفاضل شيئا لا يعرفه أن يسأله عنه ليعلمه فيعمل به ويعلمه غيره.
2. و جاء عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿وَنَزَّلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ مُّبَٰرَكٗا﴾ : أحب أن تصيب البركة فراشي و رحلي. اهـ. و الرحل : الأثاث.
3. دليل على علو الله تعالى.
الحديث التاسع :
505 - وَعَن عَائِشَة بنت سعد أَن أَبَاهَا حدثها: " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نزل وَاديا دهشاً لَا مَاء فِيهِ وَسَبقه الْمُشْركُونَ إِلَى القلات فنزلوا عَلَيْهَا، وَأصَاب الْعَطش الْمُسلمين فشكوا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَنجم النِّفَاق فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين: لَو كَانَ نَبيا، كَمَا يزْعم، لاستسقى لِقَوْمِهِ كَمَا استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ! فَبلغ ذَلِك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أَو قالوها؟ ! عَسى ربكُم أَن يسقيكم، ثمَّ بسط يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ جللنا سحاباً كثيفاً قصيفاً دلوقاً مخلوفاً ضحوكاً زبرجاً تمطرنا مِنْهُ رذاذاً قِطقطاً سجلاً بغاقاً يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام. فَمَا رد يَدَيْهِ من دُعَائِهِ حَتَّى ظللتنا السَّحَاب الَّتِي وصف، تتلون فِي كل صفة وصف رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثمَّ أمطرنا كالضروب الَّتِي سَأَلَهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَعم السَّيْل الْوَادي وَشرب النَّاس فارتووا " رَوَاهُ أَبُو عوَانَة الإسفرايني فِي " صَحِيحه ".
هذا الحديث في مستخرج على مسلم لأبي عوانة، و لكنه من زوائد أبي عوانة منا بوبه.
و فيه أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الأنصاري البلوي المديني. ذكر الذهبي عن الدارقطني قوله فيه: "يضع الحديث"، ثم قال: "روى عنه أبو عوانة في الاستسقاء خبرا موضوعا". وقال الحافظ ابن حجر: "وهو صاحب رحلة الشافعي، طَوَّلهَا ونَمَّقها، وغالب ما أورده فيها مختلق".
و ذكره ابن الملقن في البدر المنير و لم يعزه لغير أبي عوانة، وقال: "رواه أبو عوانة في صحيحه كذلك، قال: وهو مما لم يخرجه مسلم، أي وهو على شرطه"
و عزاه الحافظ في التلخيص الحبير إلى أبي عوانة أيضًا، وقال: "فيه ألفاظ غريبة كثيرة، وسنده واه"
وعلته عبد الله البلوي، وقد تقدم قول الذهبي فيه: "روى عنه أبو عوانة في الاستسقاء خبرا موضوعا". فإسناد المصنف واهٍ، والله تعالى أعلم.
شرح الكلمات :
(واديا دَهْسًا) في رواية : دهشًا، والصواب المثبت، والدَّهس: ما سهل من الأرض ولم يبلغ أن يكون رملا.
(القِلاب) جمع قليب، وهو البئر التي لم تطو.
(ونَجَم النِّفاق) أي : ظهر و خرج.
(اللهم جَلِّلنا) المجلل: الذي يستر الأرض بالماء، والنبات الذي ينبت عنه، كأنه يكسوها به. كما يجلّل الفرس بجلاله.
(قصيفًا) القصف: بالكسر الدفع الشديد، ورعد قاصف: شديد الصوت.
(دَلوفًا) الدليف: يقال عُقَاب دلوف أي سريعة، والدَّليف: المشي الرويد إذا مشى وقارب الخطى.
(خلوفًا) الخَلْف: الاستقاء، وأخلفت القوم: حملت إليهم الماء العذب.
(ضحوكًا) يسمى انجلاء السحاب عن البرق ضحكًا.
(زِبْرِجًا) الزِّبرج: السحاب الرقيق فيه حمرة، وقيل: الخفيف الذي تسفره الريح.
(رذاذًا) الرّذاذ: أقل ما يكون من المطر، وقيل: السّكن الدائم، الصغار القطر كأنه غبار، قال الأصمعي: "أخف المطر وأضعفه: الطّلَّ، ثم الرّذاذ؛ والرّذاذ فوق القِطْقِط".
(قِطْقِطًا) القطقط: بالكسر، صغار المطر، وقيل غير ذلك.
(سَجْلًا) السجل: الصب، يقال: سجلت الماء سجلا إذا صببته صبًّا متصلا.
(بُعاقًا) البُعاق: بالضم المطر الكثير الغزير الواسع.
ثالثا : كتاب الجنائز
(الجنائز) جمع جنازة، مشتق من جَنَزَ يَجْنِزُ، أي : ستر. ويقال بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح. وقيل بالكسر بمعنى النعش وبالفتح بمعنى الميت، ويمكن ضبط هذين المعنيين بطريقة سهلة : الأعلى (الميت) بالفتح –لأن الفتحة تكون في الفوق- والأسفل (النعش) بالكسرة.
بَاب فِي الْمَوْت
506 - عَن أنس قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضر نزل بِهِ، فَإِن كَانَ لَا بُد متمنيا فَلْيقل: اللَّهُمَّ أحيني مَا كَانَت الْحَيَاة خيرا لي، وتوفني إِذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَفِي البُخَارِيّ: " أحد مِنْكُم الْمَوْت ".
نهي عن تمني الموت لما فيه من الاعتراض على القضاء والقدر، وأصل الخطاب للصحابة، ولكنه يعمهم ومن بعدهم من المسلمين.
(لضر نزل به) الضر الدنيوي، أما الضر الديني فقد حصل ذلك لجمع من السلف كالإمام البخاري رحمه الله.
(فإن كان لا بد متمنيا فليقل ...) هذا الأمر للإباحة
507 - وَعَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُويحسن بِاللَّه الظَّن " رَوَاهُ مُسلم.
هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، أي : ليظن عن الله أنه يرحمه ويعفوعنه، وأما في حال الصحة فيكون خائفا راجيا سواء، وقيل يُغَلِّب جانب الخوف.
--508 - وَعَن بُرَيْدَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " الْمُؤمن يَمُوت بعرق الجبين " رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه.
قال الترمذي : حديث حسن. وقد قال بعض أهل الحديث، لا نعرف لقتادة سماعا من عبد الله بن بريدة، وهكذا قال البخاري كما ذكره الحافظ في التهذيب.
معنى الحديث : يحصل له العرق لِمَا يعالج من شدة الموت، وهذا أقل الشدة، وقيل إنه من الحياء، حيث أنه لما تأتيه البشرى بالجنة يستحيي من تقصيره. ويحتمل أن يكون علامة لا نعرف سببها، والله أعلم.
509 - وَعَن أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة قَالَا، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لقنوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَه إِلَّا الله " رَوَاهُ مُسلم.
ذكّروا من حضره الموت بالشهادة لتكون آخر كلامه، والأمر هنا للندب، ولا يقول له : قل! بل يتشهد عنده، ولكن من دون إكثار (لا يزيد على الثلاث) ولا تكرار عليه لئلا يضجر. ولكن إذا لقنه ولم يعد ولم يجب، له أن يعيد تلقينه برفق ولطف ومداراة، لأنه مشغول بما هوفيه، وقد يتأذى منه إذا كان بعنف.
وينبغي ألا يلقنه من يتهمه لكونه وارثا أوعدوا أوحاسدا.
وطريقة التلقين : أنه يقرأ عنده (لا إله إلا الله)، فإن من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة وفي الحديث "من مات وهويعلم (لا إله إلا الله) دخل الجنة"، "ما من عبد قال (لا إله إلا الله) ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة."، وكلاهما عند مسلم. ومعروف أن (لا إله إلا الله) من موجبات دخول الجنة من غير تقييد بحالة الموت، فمن باب أولى أن توجب ذلك إذا كان في وقت لا تعقبه معصية.
(موتاكم) من حضر الموت، وذلك باعتبار ما سيؤول إليه، كقول النبي ﷺ : "من قتل له قتيل".
(لا إله إلا الله) اقتصر عليها لأنها متضمنة لشهادة أن محمدا رسول الله، إلا إذا تكلم بعده بكلام فيعيد تلقينه فيذكره بذلك.
ويتضمن الحديث تأنيس المحتضر وإغماض عينيه بعد موته.
واستحب شيخ الإسلام وغيره تطهير ثيابه به قبل موته.
ومن الآداب التي ذكرها الفقهاء : قراءة سورة ياسين عنده، لحديث : "اقرؤوا على موتاكم سورة يس" رواه أبوداود وفي سنده بعض الضعف، لكن قال باستحباب قراءته عند المحتضر جمهور كثير من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومما قيل في حكمة ذلك :
1. أن سورة يس مشتمل على أحوال القيامة وأهوالها وتغير الدنيا ونعيم الجنة وعذاب الآخرة. ومعنى (موتاكم) في هذا الحديث -كما سبق- : من حضره الموت، فقراءة يس عليه تكون قبل موته لا بعده.
2. ذكر صاحب (الروض) أنه يسهل خروج الروح، كما يقرأ عنده أيضا سورتي الفاتحة وتبارك.
قال الإمام أحمد : يقرأ عند الميت إذا حضر ليخفف عنه، بالقرآن.
وذكر صاحب الزاد أنه يوجهه إلى القبلة قبل النزول به وتيقن موته، لقوله ﷺ عن بيت الله الحرام : "قبلتكم أحياء وأمواتا". وكما في قضة البراء بن معرور لما أوصى إلى القبلة، فقال ﷺ : "أصاب السنة."
ويكون على جنبه الأيمن أفضل إن كان المكان واسعا لتوجيهه على جنبه، كما يتوشد اليمين عند النوم، فكذلك ينبغي أن يكون المحتضر كذلك. وإن لم يكن المكان واسعا فعلى ظهره مستلقيا ورجلاه إلى القبلة، كما يوضع في مغتسله.
وروي عن الإمام أحمد أنه يوجه مستلقيا على قفاه، سواء أكان المكان واسعا أم ضيقا، لأنه أيسر لخروج الروح وتغميض عينه وشدّ لحييه وأمنع من تقميص أعضائه.
قال الموفق ابن قدامة : "ويحتمل أن يجعل ظهره بكل حال، ويرفع رأسه قليلا ويكون رأسه أعلى من رجليه لينصب عنه الماء وما يخرج منه ليصير وجهه إلى القبلة إذا لم يشق."
510 - وَعَن أم سَلمَة قَالَت: " دخل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى أبي سَلمَة وَقد شقّ بَصَره فأغمضه، ثمَّ قَالَ: إِن الرّوح إِذْ قبض تبعه الْبَصَر فَضَجَّ نَاس من أَهله فَقَالَ: [لَا تدعوا عَلَى أَنفسكُم إِلَّا بِخَير، فَإِن الْمَلَائِكَة يُؤمنُونَ عَلَى مَا تَقولُونَ، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لأبي سَلمَة وارفع دَرَجَته] اللَّهُمَّ اجْعَل دَرَجَته فِي المهديين واخلفه فِي عقبه فِي الغابرين، واغفر لنا وَله يَا رب الْعَالمين، وافسح لَهُ فِي قَبره وَنور لَهُ فِيهِ ". وَفِي لَفْظَة: " واخلفه فِي تركته " رَوَاهُ مُسلم.
في لفظ للبيهقي عن بكر بن عبد الله المزني : "بسم الله وعلى ملة رسول اللهﷺ."
(شق بصره) بالرفع، أي : شخص. قيل بالنصب، أي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه.
(فأغمضه) يدل على استحباب إغماض الميت لئلا يقبح منظره، وأجمعوا على ذلك إذا خرجت الروح من الجسد، ولا يفعل ذلك قبل مفارقة الروح الجسد.
وذكر أبوداود أن أبا ميسرة غمض جعفر بن معلم حال الموت، فرآه في منامه يقول : أعظم ما كان لي عليك تغميضك قبل الموت.
وإذا مات سن تغميضه وشد لحييه لئلا يدخله الهوام، تشد لحيا بعصابة أونحوها، تجمع لحييه وتربطهما فوق رأسه، لئلا يبقى ذقنه مفتوحا فيتشوه خلقه أويدخله شيء كالهوام أوالماء قبل وقت غسله.
(إن الروح إذ قبض) هكذا في المحرر، وفي صحيح مسلم بـ (إذا) والظاهر أنما في المحرر خطأ مطبعي. أي : أن الروح إذا خرج من الجسد. الروح يُذكَّر ويُؤنَّث، وهنا جاء بالتذكير.
(تبعه البصر) أي : ناظرا أين يذهب.
(في الغابرين) أي : في الباقين.
فيه استحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله ولذريته.
ويسن أيضا تليين مفاصل أعضاء اليدين والرجلين قبل قسوتها (عقب موته) حيث تبقى الحرارة ولا تزال باقية في البدن، وذلك ليسهل تغسيله. لأنها إذا بردت لن يمكن تليينه.
وطريقة التليين : أن يرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يردهما إلى جنبيه، ويرد أصابع يديه إلى كفيه ثم يبسطهما، ويرد ساقيه إلى فخذيه، ويرد فخذيه إلى بطنه، ثم يردهما، وكل هذا إذا سهل الأمر. فإن شق لا يفعل ذلك، رفقا به.
511 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حِين توفّي سُجّي بِبرد حبرَة " مُتَّفق عَلَيْهِ
(برد) كساء معروف مخطط.
(حِبَرَة) نوع من برد اليمن يكون مُخَطَّطًا ولينا –لأنه من قطن- وجميل الشكل.
(سُجِّيَ) أي : غُطِّيَ جميع بدنه. فيه استحباب تغطية الميت(وجهه وسائر بدنه)، وهذا بالإجماع. وفيه صياتنه من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين، وتُنزع ثيابه التي توفي فيها لئلا يحمى جسده فيسرع إليه الفساد ، ويُلَفُّ طرف الثوب المسجَّى به تحت رأسه والطرف الآخر تحت رجليه لئلا ينكشف ويرتفع بالريح أونحوه. ويسن أيضا وضع مرآة أوسيف أوشيء على بطنه فوق الثياب التي سجي بها –وهومستلق على ظهره- لئلا ينتفخ بطنه فيقبح منظره، ولا يكون الذي يوضع عليه مصحف أوكتب فقه أوحديث أوما شابه ذلك.
ويسن وضعه على سرير غسله لأنه يبعده عن الهوام ويرفعه عن نداوة الأرض حتى لا يتغير بها. إلا إذا كانت الأرض صلبة فلا بأس بوضعه عليها لزوال العلة وهي خشية تغيره.
ويستحب أن يكون الذي يعمل بكل ما تقدم، أرفق الناس.
512 - وَعَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: " أَن أَبَا بكر قبّل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد مَوته] " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
(أن أبا بكر رضي الله عنه قبل النبي ﷺ بعد موته) قبل جبهته ثلاثا وهويقول : "وا نبياه وا صفياه وا خليلاه"، ويقول وهويبكي : "بأبي وأمي، طبت حيا وميتا." وهذا دليل على جواز تقبيل الميت والنظر إليه -ولوبعد تكفينه-، وذلك لمن يباح ذلك منهم في الحياة.
--
513 - وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " نَفْس الْمُؤمن معلقَة بديْنه حَتَّى يُقضى عَنهُ " رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن مَاجَه، وَأَبُويعْلى، (وَالتِّرْمِذِيّ، وَحسنه) .
تحسين الترمذي له لأن فيه عمر بن أبي سلمة وهو ضعيف يعتبر به، قال يحيى القطان عنه : "ضعيف. والحديث صحيح."، وذلك لمتابعة الزهري له عند عبد الرزاق في مصنفه، وأيضا له شاهد بإسناد صحيح عن سمرة بن جندب عند أبي داود.
(نفس المؤمن معلَّقَة) محبوسة عن دخول الجنة وأمره موقوف حتى يُقضى عنه دينه. وفيه حث للورثة على قضاء دين الميت. وحمله الماوردي على من له مال يقضى منه دينه، بخلاف من لا مال له ومات عازما على القضاء، فالله يقضي عنه.
وينبغي أيضا الإسراع بتنفيذ وصاياه.
- بَاب غسل الْمَيِّت
514 - عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " بَيْنَمَا رجل وَاقِف مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِعَرَفَة إِذْ وَقع من رَاحِلَته فأقصعته - أَوقَالَ فأقعصته - فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اغسلوه بِمَاء وَسدر وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تحنطوه وَلَا تخمروا رَأسه، فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبياً " وَفِي لفظ: " وَهُويُلَبِّي "، وَفِي لفظ: " وَلَا تمسوه طيبا فَإِن الله عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبياً " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.
(بينما رجل واقف مع رسول الله بعرفة) أطلق الوقوف على الركوب.
(فأقصعته –أوقال فأقعصته) المعنى : قتلته. وفي رواية : (وقصته) أي : كسرت عنقه.
قال الحافظ : لم أقف على تسمية هذا الصحابي.
دل الحديث على أن الميت المحرم يكفن في ثوبيه –أي : في الإزار والرداء- الَّذَيْن كان محرما فيهما.
وعلى أن الكفن في ثوبين جائز، أما الثلاثة المذكورة في حديث عائشة فإنها مستحبة. إنما الواجب ثوب واحد ساتر يحجب البدن.
وكفن في ثوبيه إكراما له لأن الإحرام لا ينقطع بالموت، خلافا للحنفية والمالكية الذين قالوا إنه القياس، أما ما ورد في هذا الحديث فمخصوص بهذا الرجل. ويجاب عن ذلك بأن العلة هي الإحرام فتعم.
أما حديث "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث ..." فالجواب أن تكفينه في ثوبه وعدم تحنيطه وتخمير رأسه وما شابه ذلك هومن أعمال الأحياء وليس من أعمال الميت، ومثله الغسل والصلاة والتكفين وما شابه ذلك.
وفيه أن من شرع في طاعة ثم مات، يرجى من فضل الله له أن يكتب في الآخرة من أهل تلك الطاعة.
(لا تحنطوه) أي لا تمسوه حنوطا. وهي إخلاط من طيب تكون للأموات. وفائدته إكرام الميت وتحسين رائحته.
(ولا تخمروا رأسه) دليل على أن المحرم الحي لا يخمر رأسه. أما الوجه، فقال أبوحنيفة ومالك : هو كالرأس. وقال الشافعي وأحمد : لا بأس للمحرم أن يخمر وجهه، إنما نهي عن النقاب للنساء.
(فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا) على هيئته التي مات عليها.
--
515 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أَنَّهَا كَانَت تَقول: " لما أَرَادوا غسل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالُوا: وَالله مَا نَدْرِي أنجرد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ثِيَابه كَمَا نجرد مَوتَانا أم نغسله وَعَلِيهِ ثِيَابه؟ فَلَمَّا اخْتلفُوا ألْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِم النّوم حَتَّى مَا مِنْهُم رجل إِلَّا وذقنه فِي صَدره ثمَّ كَلمهمْ مُكَلم من نَاحيَة الْبَيْت لَا يَدْرُونَ [من هُوَ] : أَن اغسلوا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَعَلِيهِ ثِيَابه. فَقَامُوا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فغسلوه وَعَلِيهِ قَمِيصه، يصبون المَاء فَوق الْقَمِيص ويدلكونه بالقميص دون أَيْديهم. وَكَانَت عَائِشَة تَقول: لَواسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا غسله إِلَّا نساؤه " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، وَأَبُودَاوُد وَهَذَا لَفظه، (وَرُوَاته ثِقَات) ، وَمِنْهُم " ابْن إِسْحَاق " وَهُو الإِمَام الصدوق.
إسناد الحديث حسن، لأن فيه ابن إسحاق، وهو صدوق يدلس –مع إمامته في المغازي والسير- وقد صرح هنا بالتحديث.
ما يستفاد من الحديث :
1. دليل على ما اتفق عليه الفقهاء من جواز غسل الزوجة زوجها.
2. غسل الميت وحمله والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية.
3. الواجب في الغسل مرة تعم البدن، وإن دعت الحاجة إلى الزيادة فيزاد، ويسن أن يكون وترا.
--
516 - عَن أم عَطِيَّة قَالَت: " دخل علينا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَنحن نغسل ابْنَته فَقَالَ: اغسلنها ثَلَاثًا أَوخمْسا - أَوأَكثر من ذَلِك، إِن رأيتن ذَلِك - بِمَاء وَسدر واجعلن فِي الْآخِرَة كافوراً - أَوشَيْئا من كافور - فَإِذا فرغتن فأذنني. فَلَمَّا فَرغْنَا آذناه فَألْقَى إِلَيْنَا حقوه فَقَالَ: أشعرنها إِيَّاه " " وَفِي لفظ، " ابدأن بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَعند البُخَارِيّ: " فضفرنا شعرهَا ثَلَاثَة قُرُون فألقيناها خلفهَا "، وَعِنْده: " ثَلَاثَة أَوخَمْسَة أَوسَبْعَة أَوأَكثر من ذَلِك ".
(أم عطية) هي نسيبةبنت الحارث وقيل كعب الأنصارية .
(ونحن نغسل ابنته) هي أم كلثوم عند أهل السير، ولكن الصواب –كما قال الحافظ- هي زينب.
(إن رأيتن ذلكَ) أي : إن رأيتن المصلحة في ذلك، وليس بالتشهي. وقوله (إن رأيتن ذلكِ) بكسر الكاف خطاب للمؤنث أي لأم عطية
(كافورا – أوقال : شيئا من كافور) شك من الراوي. وفائدة الكافور : التطييب والإكرام وتبريد البدن وتصليبه ومنع إسراع الفساد إليه.
فيه استحباب السدر في غسل الميت وشيء من الكافور في الغسلة الأخيرة. وعند أبي حنيفة ومن وافقه لا يستحب الكافور، وقول الجمهور أرجح.
(حقوه) بفتح المهملة ويجوز كسرها هوالإزار. وأصل الحقومعقد الإزار، سمي به الإزار مجازا لأنه يشد فيه.
(أشعرنها إياه) يجعلن إزاره ﷺ شعارا لها ويلففنها به، والشعار : ما يلي الجسد من الثياب. ويسمى شعارا لأنه يلي شعر الجسد. والحكمة فيه للتبريك لها به. وترجم به البخاري بــ"هل تكفن المرأة في إزار الرجل؟"، وأشار بقوله "هل" إلى تردده في المسألة وإلى أنه يحتمل الخصوصية كما ذهب إليه طائفة من العلماء.
(ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) استحباب تقديم الميامن. واستحباب الوضوء ويكون في أول الغسل، خلافا لأبي حنيفة فقال أنه لا يستحب.
(فضفرنا شعرها ثلاثة قرون ...) فيه استحباب المشط والضفر. والقرون الثلاثة : في ناصيتها ضفيرة وفي قرنيها ضفيرتان، أي في جانبي رأسها. وهذا الذي ذهب إليه الجمهور خلافا للأوزاعي والكوفيين –الحنفية-.
فيه أن النساء أولى بغسل المرأة من زوجها كما هوالاصح عند الشافعية. وفيه احتمال أن زوجها كان غائبا أوأنه فوض الغسل إليهن.
مسألة : هل هذا الوضوء حقيقة، حيث يعاد غسل الأعضاء حين الغسل، أم أنه جزء من الغسل وكان البدء بهذه الأعضاء تشريفا لها؟
الاحتمال الثاني أظهر وأقرب كما ذكره الحافظ.
مسألة : هل يجب الغسل على من غسل الميت؟
ذهب الجمهور إلى أنه يستحب وكذلك الوضوء، لأن هذا مقام تعليم من النبي ﷺ لأم عطية ومن معها ولم يأمرهن الغسل، ولو كان واجبا لأمرهن بذلك. وذهب أحمد إلى وجوبه مستدلا بحديث أبي هريرة مرفوعا : "من غسل ميتا فليغتسل"، وهو حديث ضعيف.
- بَاب فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت
517 – وَعَن أَسمَاء بنت عُمَيْس " أَن فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام أوصت أَن يغسلهَا زَوجهَا عَلّي وَأَسْمَاء فغسلاها " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
هذا الأثر إسناده حسن كما قاله الحافظ في (التلخيص) وأخرجه -غير الدارقطني- البيهقي في (الصغرى) وفي (الكبرى)
(أن فاطمة عليها السلام) لا بأس أن يذكر (عليه السلام) لأهل البيت تبعا للنبي ﷺ، ولكن ينبغي الاحتراز منه –لا سيما عند المتأخرين- لما كان شعارا للشيعة والروافض وخشية الاشتباه بهم.
أي : أن زوجها –علي بن أبي طالب رضي الله عنه- غسلها ومعه أسماء بنت عميس ( وهي زوجة جعفر بن أبي طالب، هاجرت معه إلى الحبشة. ولما استشهد جعفر في مؤتة، تزوجها أبوبكر في الحنين، ولما توفي أبوبكر تزوجها علي، رضي الله عنهم جميعا)، واحتاجت إلى أن تساعدها ابنتها في غسل فاطمة.
دليل على جواز غسل الزوج زوجته الميتة وهو قول الجمهور، وخالف ذلك الشعبي والثوري وأبو حنيفة، واحتجوا ببلاغ عن عمر أورده محمد بن الحسن في (الآثار) قال : "نحن أحق بها إذا كانت حية، فإذا ماتت فأنتم أحق بها." وهي لا تقاوم الأدلة التي تدل على الجواز، ومنها هذا الأثر عن أسماء بنت عميس.
بَاب فِي الْكَفَن
وهو لباس الميت.
518 – عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " كفن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض سحُولِيَّة من كُرْسُف لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة " مُتَّفق عَلَيْهِ.
(ثلاثة أثواب) المراد بالأثواب هو اللفائف، والقماش عموما يقال له ثوب. أما الثوب المشتهر عندنا فهو القميص بالعربية. وفي (الطبقات) لابن سعد عن الشعبي : إزار ورداء ولفافة.
(سحولية) بفتح السين وضمها، والضم أشهر، نسبة إلى (سحول) مدينة باليمن تعمل بها ثياب بيض نقية من قطن.
(كرسف) أي : قطن.
الحديث يدل على أنه لم يكن في الثياب الثلاثة عمامة ولا قميص، وهو المستحب عند الجمهور. وقال مالك وأبو حنيفة بل يستحب أن يكون فيها قميص وعمامة، وتَأَوَّلَا هذا الحديث على أنها ثلاثة أثواب زائدة عليها القميص والعمامة.
وفي الحديث وجوب تكفين الميت، وهو إجماع، ويكون من مال الميت، فإن لم يكن فعلى من تلزمه نفقته، فإن لم يكن فمن بيت مال المسلمين، فإن لم يكن فمن أهل اليسار والاستطاعة من المسلمين.
الواجب في الكفن واحد يستر جميع البدن، والسنة للرجال ثلاثة، وللمرأة خمسة.
ويستحب التكفين في البياض بالإجماع، ويكره المصبوغ والزينة، ويحرم الحرير على الرجل ويكره للمرأة.
--
519 – وَعَن ابْن عمر " أَن عبد الله بن أُبَيّ لما توفّي جَاءَ ابْنه إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصك أكَفنهُ فِيهِ وصل عَلَيْهِ واستغفر لَهُ، فَأعْطَاهُ قَمِيصه " مُتَّفق عَلَيْهِ أَيْضا.
(عبد الله بن أبي) ابن سلول، رأس المنافقين. وابنه عبد الله وكان رجلا صالحا.
وهو يكتب بالألف : عبد الله بن أبي ابن سلول، ويعرب ابن سلول بإعراب عبد الله، لأن كلا من (بن أبي) و(ابن سلول) وصف له، فأبي أبوه وسلول أمه، فنسب إلى أبويه جميعا.
(أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له) لعله يرجو بذلك نجاته.
(فأعطاه ﷺ قميصه) لعل ذلك تأليفا لقلوب تابعيه، وجبرا لخاطر ابنه، أو مكافأة لما كان فعله معه ﷺ هذا الرجل حتى لم يبق له يد عنده ﷺ.
لأن عبد الله بن أبي بن سلول كان كسا العباس رضي الله عنه حين أسر قميصا
فيه جواز التبرك بآثار الرسول ﷺ إذا ثبتت وهو بإجماع العلماء.
--
520 – وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا من خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُودَاوُد، وَابْن مَاجَه، (وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ) .
(البسوا) بفتح الباء، من لبِس يلبَس لُبْساً. وليس من لبَس يلبِس لَبْسا، فإنه مثل خلَط يخلِط خلطا وزنا ومعنى.
(من ثيابكم) (من) تبعيضية أو بيانية.
(البياض) ذات البياض.
(فإنها من خير ثيابكم) لما فيها من :
1. النقاء والنظافة.
2. البقاء على الفطرة وأصل الخلقة.
3. لظهور الدنس فيها فيسرع الإنسان إلى تنظيفها.
(وكفنوا فيها موتاكم) الأمر للاستحباب وعليه الإجماع.
(والترمذي وصححه) قال الترمذي : حسن صحيح.
وعن أبي بكر أن التكفين يكون في الثياب التي يصلي فيها وهو اختيار ابن المبارك.
521 - وَعَن جَابر قَالَ، قَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه " رَوَاهُ مُسلم.
(كفنه) بالفتح والسكون في الفاء، والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث كما قاله القاضي عياض.
زاد الحارث بن أبي أسامة –كما ذكره الحافظ- : "فإنهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم".
والأمر بإحسان الكفن في هذا الحديث للاستحباب، ومعناه يتضمن ثلاثة أشياء :
1. نظافته ونقاؤه
2. كثافته وستره
3. توسطه بأن يكون من جنس لباسه في الحياة غالبا، لا أفخر منه ولا أحقر.
فليس المراد به السرف ولا المغالاة ولا النفاسة.
وسبب الحديث أن رسول الله ﷺ خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قُبض وكُفن في غير طائل، أي : كفن في كفن حقير غير كامل للستر، وقبر ليلا، فزجر النبي ﷺ أن يقبر الرجل في الليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، فقال : "إذا كفن أحدكم ..." الحديث.
وفي ذلك النهي عن الدفن بالليل، وهو على الكراهة عند الحسن، أما عند الجمهور فهو محمول على ترك الصلاة أو قلة المصلين أو إساءة الكفن، وإلا فلا بأس به ولا كراهة.
مسألة : الإسراع في تجهيز الميت (غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه)
والإسراع يكون في غير موت الفجأة.
أما إن مات فجأة من غير تقدم سبب من مرض وغيره، كالمصعوق والحريق أومن مات بهدم أو نحو ذلك أو شك في موته كالمغمى عليه فينتظر من الغدوة إلى الليل، وقيل أكثر ما لم يخش فساده. وذلك ليتأكد من موته، وكذلك ليحضره أولياؤه وأقرباؤه أو لتكثير عدد المصلين عليه، وذلك إن كانوا قريبين أو لم يشق على الذين قد حضروا.
ومن العلامات الدالة على تأكد الموت : غيبوبة سواد العينين، ميل الأنف، انخلاع الكفين عن الذراع، استرخاء عصبة اليد كأنها منفصلة في جلدته عن العظم، امتداد جلدة الوجه، وتغير الرائحة.
قال أحمد: أكره موت الفوات.
لعله لما في ذلك من فوات الاستعداد للمعاد. وفي الحديث : "موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر."
فإذا حصل موت الفجأة فينبغي لأولاده أن يستدركوا له أعمال البر ما أمكنهم مما تقبل النيابة.
مسألة : يكره ترك الميت وحده، بل ينبغي أن يبيت معه أهله، قيل : لأن الشيطان يتلاعب به إذا ترك وحده.
وغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه , كل ذلك فرض كفاية , أي: على من علم به وأمكنه, وإن لم يعلم به إلا واحد تعين عليه.
والغسل للميت المسلم يكون مرة بالماء على الوجوب إذا كان ممكنا, وإن كان تعذر لفقد الماء أو خشي من استعماله تقطع الميت, وما شابه ذلك فيُيمم.
ويجب الغسل بالماء ويستحب أن يكون ماء سدر ويكفن -كما سبق- بثوب واحد إجماعا, وبمزيد منه استحبابا. وإن كان محرما فيكفن في ثوبين أي في الإزار والرداء.
ويكره لغاسله أخذ أجرة على عمله إلا أن يكون محتاجا فيعطى من بيت المال, فإن تعذر إعطاؤه من بيت المال أعطي بقدر عمله. وأما الصلاة عليه فيحرم أخذ الأجرة عليها, والأفضل اختيار ثقة عارف بأحكام الغسل, أمين في ستر ما يراه من معايب المحتملة من تغسيله. وحمله وغسله وكل ما سبق هو فرض كفاية. أما اتباعه إلى قبره فهو سنة.
وأولى الناس بغسله وصيه الذي أوصى أن يغسله إذا كان عدلا, وبعد ذلك أبوه لأنه أشفق الناس إليه, ثم جده, ثم الأقرب فالأقرب من عصباته: فالابن, ثم ابن الابن ثم الأخ الشقيق, ثم الأخ لأب, وهكذا ثم ذوو الأرحام كما في الميراث, ثم الأجانب. والرجال ولوأجنبي أولى من زوجته, كذلك في النساء الأجنبية أولى من الزوج خروجا من الخلاف. وقال النووي وغيره: إنما هي رواية عن أحمد. وأما أكثر الحنابلة فلم يذكروا هذه الرواية عنه, واعتمدوا في متونهم كما في الروض أن الأجنبي أولى من الزوجة, والأجنبية أولى من الزوج, ولكن لواحد من الزوجين غسل صاحبه ما دام مسلمين. وأما ذمية فليس أهلا للغسل. وآثار النكاح باقية كعدة الوفاة وكالإرث, فلا يصح قول الحنفية في منع الغسل بزوال الزوجية, وقول بعضهم إنه القياس- أي المنع- يقابله قياس غسلها زوجها على غسله لا على غسلها له المجمع عليه. والمطلقة الرجعية أيضا تغسل زوجها لأنها زوجة فيما عدا القسم.
وإذا مات رجل بين نسوة وليس فيهن زوجه له أو بالعكس يكتفى بالتيمم. وأما إذا مات الصغير ذكرا كان أو أنثى وهو دون سبع سنين فإنه لا عورة له فيغسله من يسر من رجل أو امرأة لأن إبراهيم عليه السلام ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسلته النساء كما ذكر ابن المنذر. وذكر ابن كثير أن عليا رضي الله عنه هو الذي غسله { رواه أحمد وغيره} كما ذكر صاحب حاشية الروض المربع العلامة الشيخ عبد الرحمن بن القاسم. والأول أي كونه غسلته هو كلام صاحب الروض-فالله أعلم-.
وأما الكافر فلا يغسله المسلم ولا يصلى عليه, ويكتفي بمواراته إذا عدم من يواريه من أقاربه الكفار.
وعند الغسل يستر عورته أي ما بين السرة والركبة ويجرد باقي جسده ندبا لأنه أبلغ في تطهيره. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فغسّل في قميص لأن فضالاته طاهرة فلا يخشى تنجّس قميصه بها ولعظم حرمته صلى الله عليه وسلم.
ويسن أيضا ستر الميت حال الغسل عن العيون لانه صار جميعه عورة ولأنه ربما كان به عيب يستره في حياته أو لأنه تظهر عورته. ويكره النظر إلى الميت إلا لحاجة. وستره عن العيون ,أي: ستره في خيمة وما شابهها من جميع جهته حتى من جهة السماء,ولا ينظر إليه في غير حاجة حتى الغاسل لا ينظر إلا إلى ما لا بد منه غيرَ العورة, فإنها يحرم مطلقا.وأما من لا معونة له في الغسل فيكره له حضوره إلا للضرورة.
ثم يرفع رأس الميت -إلا إذا كان أنثى حاملا فلا يرفع رأسها- إلى قرب جلوسه بحيث يكون كالمحتضن في صدر غيره وكل ذلك برفق ولا يصل إلى حال الجلوس.
ثم يعصر بطنه برفق ليخرج ما يحتاج إلى الخروج من بطنه ولا يخرج بعد ذلك. ويكون هذا المسح برفق. ويكون هناك في هذه الحال بخور لئلا يتأذى برائحة الخارج, وحينئذ يكثر من صب الماء ليدفع ما يخرج بالعصر ولا تظهر رائحته فيتأذى بها.
ثم يلف الغاسل على يده خرقة خشنة أو يدخل يده في كيس لئلا يمس العورة, فيلجّيه أي يمسح فرجه بها.ولا يحل مس عورة من له سبع سنين بغير حائل. ويستحب أن لا يمس سائر جسده إلا بخرقة, لفعل علي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم. فتكون عند الغاسل خرقتان خرقة للسبيلين وأخرى لبقية بدنه استحبابا.
ثم يوضئه استحبابا كوضوء الصلاة دون مضمضة واستنشاق إلا أنه يدخل إصبعيه إبهامه وسبابته مبلولتين بخرقة مبلولة من ماء بين شفتيه, فيمسح أسنانه ويدخلهما في منخريه فينظفهما بعد غسل كفي الميت ولا يدخل الماء في أنفه وفمه.
ثم ينوي غسله ويسمي وجوبا ويغسل برغوة السدر المضروب رأسَه ولحيته فقط,. ثم يغسل شقه الأيمن ثم شقه الأيسر,ثم يغسله كله يفيض الماء على جميع بدنه يفعل ذلك كله ثلاثا إلا الوضوء ففي المرة الأولى يمر في كل مرة إلى الثلاث يدَه إلى بطنه, فإن لم ينق بالثلاث زيد حتى ينقى ولو جاوز السبعة, فالإيتار مأمور به والثلاث ندب, فإن يحصل الإنقاء بالثلاث لم تشرع الرابع وإلا زِيد حتى يحصل الإنقاع ويندب كونه وترا. فإذا لم يحصل الإنقاء بالسبع لم يزد عليه, وقيل يزيد على السبع -الله أعلم-. ويكره يكتصر على المرة في غسله لأنه صلى الله عليه وسلم قال "يغسلنها ثلاثا" ولأنه لا يحصل به كمال النظافة ولكن يجزئ. وكذلك لو نوى وسمى فغمسه في ماء مرة واحدة أجزأه كالحي, لكن يجوز لو غمسه في ماء او تركه تحت ميزاب ونحوه وحضر من كان يصلح لغسله فنوى وسمى وعمّمه بالماء لكفى. فإذا وجدت المرأة بين الرجال أو عكسه وأمكن أن يفعل كهذا فُعل بهم وإلا حصل التيمم.
ثم يكون في الغسلة الأخيرة ندبا كافور أي يضعه في الماء بحيث لا يتغير الماء به. جاء في الحديث: فإذا كان في آخر غسلة من الثالثة أو غيرها فاجعلي ماء فيه شيء من كافور أو شيء من سدر ثم أفرغيه عليها وابدئي برأسها حتى يبلغ رجليها". فيكون في الغسلة الأخيرة كافور وسدر لأنه يقوي الجسد ويطيبه ويبرده ويطول عنه الهوام برائحته. والماء الحار والعشنان الذي هو كالصابون يستعمل كل ذلك أذا احتيج إليه.
وإذا طالت أظافره أو شاربه تقص ندبا, وعنه رحمه الله يعني الإمام أحمد: لا يؤخذ منه شيء لا شعره ولا ظفره لكون أجزائه محترمة. وما أخذ –على القول بأخذه الذي هو المذهب- يجعل معه كعضو ساقط, كما لوسقط منه عضو فيجعل معه وجوبا من شعر ونحوه حتى لو كانت أعضاؤه مقطعة جمع بعضها إلى بعض حتى لا يتبين تشويهه.
وهل يسرَّح شعره؟؟ قيل يكره ذلك لما فيه من تقطيع الشعر بدون حاجة إليه, وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة والحنابلة. وأما الشافعي رحمه الله فقال: يسرح تسريحا خفيفا, واستحبه بعض الحنابلة. والتسريح أي التمشيط .وفي مسلم: "مشطناها ثلاثة قرون" لكن أجاب أحمد رحمه الله أن معناه "ظفرناه".
ثم بعد هذا الوصل ينشَّف الميت بثوب لئلا يبتل كفنه بذلك, ويظَّفر ندبا شعر الأنثى ثلاثة قرون في ثلاثة ظفائر -والقرن هو الخصلة من الشعر, والظفر هو الفتل- ويسدل وراءها.
وإن خرج من الميت شيء بعد غسله سبع غسلات حُشي المحل بقطن ليمنع الخارج إذا احتيج إلى ذلك وإلا يكتفى بلجمه بالقطن. فإن لم يستمسك بالقطن فبغيره كطين خالص لأن فيه قوة يمنع الخارج, ثم يغسل المحل المتنجس بالخارج, ويُوضَّأ الميت كالجنب إذا أحدث بعد الغسل لتكون طهارته كاملة, فإن خرج منه شيء بعد التكفين لم يعد غسله.
والمحرم بالحج أوالعمرة كالحي يغسل بماء وسدر, لكنه لا يغسل بالكافور لأنه طيِّب, ولا يوضع عليه طيب مطلقا إلا إذا كان حصل التحلل الأول. ولا يلبس الميت المحرم الذكر المخيط من قميص ونحوه ولا يغطَّى رأسه, ويغطَّى بقية جسده من وجه ورجلين وسائر البدن كالمحرم الحي. ويُكفَّن في ثوبين ويجوز زيادة على الثوبين وأما المرأة المحرمة فلا يغطَّى وجهها بل تخمَّر كما في حياتها ولا يقرَّب منها طيب كأنها على حياتها محرمة.
وأما المعتدة التي ماتت في العدة –معتدة وفاة- فإنها يسقط إحدادها بموتها, فإذا كانت تُغسَّل فلا بأس أن يوضع عليها الطيب لأن منعها من الطيب في الحياة من أجل الإحداد لأنه يدعوإلى نكاحها وذلك لا يستمر بعد موتها وإن كان على الميت بسبب جراحه لصوقٌ -يعني لصقة أو جبيرة- فتزال إن لم يسقط من جسده شيء بإزالته, وأما إزالتها بدون خشية ضرر فلازمةٌ من أجل غسل ما يحصل به تعميم البدن بالغسل.
وهذا كله يستثنى منه شهيد المعركة فإنه لا يُغسل أي المقتول لأجل الكفار يكره تغسيله لأن الغسل سيزيل أثر العبادة, وقيل بالتحريم وهو أرجح وهو قول الجمهور . وكذلك المقتول ظلما في غير الحرب لا يُغسل عند الجمهور, وقيل يغسل لأن رتبته دون رتبة شهيد المعركة. واستدل القائلون بتغسيله –كالموفَّق وغيره- على أنه يجوز تغسيله -أي المقتول ظلما- بقصة عمر وعلي رضي الله عنهما. وأما شهيد المعركة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر في شهداء أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسّلوا.
والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه، وتستحب تسميته. ومن تعذر غسله يتيمم كما سبق، ويجب على الغاسل ستر ما رأى إن لم يكم حسنا، ويجب تكفين الميت من ماله مقدما على الدين، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.
ويستحب تكفين الرجل في ثلاث ثياب لفائف بيض تُجَمَّر (أي : تُبَخَّر) بعد رشها بماء ورد ونحوه. ثم تبسط بعضها فوق بعض، أوسعها وأحسنها أعلاها. ويجعل الحنوط فيما بينها، أي يُذَرُّ فيما تلك اللفائف. ثم يوضع الميت عليها مستلقيا. ويجعل من الحنوط في قطن بين إليتيه ليرد ما يخرج عند تحريكه. ويشد فوقها حرقة مشقوقة الطرف كالسراويل بلا أمام، تجمع إليتيه موضع بوله، ويجعل الباقي في القطن المحنط على منافذ وجهه، أي : عينيه ومنخريه وعلى مواضع سجوده. وإن طيب الميت كله فحسن. ثم يرد طرف اللفاف العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن وطرفها الآخرفوقه، ثم يفعل بالثاني والثالث كذلك، ويجعل أكثر الفاضل من كفنه على رأسه لشرفه، ويعيد الفاضل على وجهه ورجليه بعد جمعه ليصل الكفن كالكيس فلا ينتشر عند حمله ووضعه ثم يعقدها. وتحل في القبر.
وإذا كفن في قميص وإزار ولفاف فجاز. وذلك لأنه ﷺ ألبس على عبد الله بن أبي قميصه لما مات، مكافأة له لما كان لبس العباس حين أسر.
وتكفن المرأة في خمسة أثواب بيض من قطن : إزار وخمار وقميص ولفافتين، والواجب في كل ذلك ما يستر الجميع (جميع البدن).
- بَاب فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت
522 – عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجمع بَين الرجلَيْن من قَتْلَى أحد فِي ثوب وَاحِد، يَقُول: أَيهمْ أَكثر أخذا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذا أُشير لَهُ إِلَى أَحدهمَا قدمه فِي اللَّحْد، وَقَالَ: أَنا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة. وَأمر بدفنهم فِي دِمَائِهِمْ فَلم يغسلوا وَلم يصل عَلَيْهِم " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
فيه جواز تكفين الرجلين في كفن واحد للضرورة، إما بجمعهما فيه أو بقطعه بينهما.
وفيه جواز دفن اثنين في لحد واستحباب تقديم أفضلهما في داخله.
وفيه أن شاهد المعركة لا يصلى عليه، خلافا للحنفية فقالوا بأن المثبت مقدم على النافي، وهذا لا يسلم لأن النافي إذا كان راويه حافظا يترجح على المثبت إذا كان راويه ضعيفا، مع أن فيه احتمال أنه بمعنى الدعاء، أو أنها في قصة حمزة، أو أن الصلاة تكون في وقت آخر غير وقت الوفاة.
--
523 – وَعَن عقبَة بن عَامر: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج يَوْمًا فَصَلى عَلَى أهل أحد صلَاته عَلَى الْمَيِّت ثمَّ انْصَرف إِلَى الْمِنْبَر فَقَالَ: إِنِّي فرط لكم وَأَنا شَهِيد عَلَيْكُم " الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ. وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ. وَله: " صَلَّى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى قَتْلَى أحد بعد ثَمَانِي سِنِين كالمودِّع للأحياء والأموات ".
كانت أحد في شوال سنة 3 من الهجرة، ووفاة النبي كان في الربيع الأول سنة 11 هـ، فقوله 8 سنين فيه تجوز بالجبر والكسر، وإلا فهي سبع سنين ونصف تقريبا.
وفيه مشروعية الصلاة على الشهداء كما ذهب إليه الحنفية، وقد سبق الجواب عليه. فهي تحمل على معنى دعاء صلاة الميت.
--
524 – وَعَن جَابر: " أَن رجلا من أسلم جَاءَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاعترف بِالزِّنَا فَأَعْرض عَنهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى شهد عَلَى نَفسه أَربع مَرَّات، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أبك جُنُون؟ ! قَالَ: لَا! قَالَ: آحصنت؟ قَالَ: نعم. فَأمر برجمه بالمصلى، فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة فر فَأدْرك، فرُجم حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيرا، وَصَلى عَلَيْهِ " هَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر قَالَ: (وَلم يقل يُونُس وَابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ: " فَصَلى عَلَيْهِ ") . وَرَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُودَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَقَالُوا: " وَلم يصل عَلَيْهِ " (وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَهُوالصَّوَاب - وَالصَّحِيح عَن معمر - كَرِوَايَة خَبره عَن الزُّهْرِيّ) وَالله أعلم.
قد روى هذا الحديث 8 أنفس عن عبد الرزاق، فلم يذكروا (وصلى عليه). وسئل أبوعبد الله : هل قوله (فصلى عليه) يصح أم لا؟، فقال : رواه معمر، قيل له : هل رواه غير معمر؟ قال : لا. وهذا ورد في بعض الروايات عن صحيح البخاري.
وقد اعترض عليه في جزمه بأن معمر روى هذه الزيادة، بأن المنفرد بها هو محمود بن غيلان عن عبد الرزاق. فلعله قويت عنده رواية محمود بالشواهد.
وقد جمع بين الروايتين بأنه لم يصل عليه يوم رجم، بل في اليوم الثاني.
وقوله : رواه يونس ومعمر وابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر، يريد أنهم خالفوا عقيلا في جعل أصل الحديث من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة. وقول ابن شهاب : أخبرني من سمع جابر بن عبد الله : كنت فيمن رجمه بالمصلى، فهؤلاء جعلوا الحديث كله عن جابر. ورواية معمر وصله البخاري في الحدود، وكذا رواية يونس، أما ابن جريج فوصلها حيث قال عقب رواية معمر : لم يقل يونس وابن جريج : فصلى عليه.
(من أسلم) أي من قبيلة أسلم، وقد فسر في حديث جابر بن سمرة عند مسلم بأنه : ماعز بن مالك الأسلمي، وأنه رجل قصير أعضل ليس عليه رداء، وفي رواية : ذو عضلات
العضلة : مجتمع من اللحم في الساق والذراع وكل اللحوم المستديرة في البدن.
(أذلقته الحجارة) أقلقته وأجهدته وأصابته بحدها.
يستفاد من الحديث :
1. منقبة عظيمة لماعز بن مالك رضي الله عنه حيث استمر على إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي التراجع عن الإقرار بما يزهق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك وقوي عليها، وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة.
2. وفيه أن من وقع في مثل هذا الشيء أن يتوب إلى الله ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد، ومن اطلع عليه يستره بما ذكر ولا يفضحه ولا يرفعه للإمام، إلا فيمن كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا بها، كما قاله ابن العربي.
3. فيه التثبت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته.
4. فيه مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام في المسجد، والتصريح بما يستحيا من التلفظ عند الحاجة الملجئة إليه.
5. فيه إعراض الإمام عمن أقر بأمر محتمل لإقامة الحد، لاحتمال أنه يفسره بما لا يوجب حدا أو أنه يرجع.
6. فيه أن إقرار المجنون لاغ. والتعريض للمقر بأن يرجع، وإذا رجع قبل.
7. فيه استحباب المبادرة إلى التوبة لمن وقع في معصية، لا يخبر بها أحدا ويستتر بستر الله. وإذا اتفق أن يخبر أحدا، يستحب له أن يستر أخاه ويحثه على التوبة وعدم إخبار الآخر.
8. فيه اشتراط تقرير الإقرار بالزنا أربعا. وجواز تلقين المقر بما يدفع عنه الحد. وأن الحد لا يجب إلا بالإقرار الصريح.
9. فيه أن المقر بالزنا يترك، إن رجع فذاك، وإلا اتبع فرجم.
10. فيه أن المصلى إذا لم يكن وقفا لا يثبت له حكم المسجد.
11. فيه طلب الستر لحال ذلك الرجل واستبعاد أن يلح عاقل بالاعتراف بما يؤدي إلى هلاكه.
اختلاف العلماء :
قال مالك : يأمر الإمام بالرجم ولا يتولاه بنفسه ويخلي بينه وبين أهله فيغسلونه ويصلون عليه ولا يصلي عليه هو، ردعا لأهل المعاصي.
وقال الجمهور وهو رواية عن مالك : أنه يجوز للإمام أن يصلي عليه.
والمشهور عن مالك يكره للإمام وأهل الفضل الصلاة على المرجوم، وهو قول أحمد. ويصلي عليه غير الإمام وأهل الفضل.
وعن الشافعي لا يكره ذلك، وهو قول الجمهور. وكذلك على الفساق والمقتولين في المحاربة والحدود وغيرهم.
-
525- وَرَوَى مُسلم فِي حَدِيث الغامدية من رِوَايَة بُرَيْدَة: " ثمَّ أَمر بهَا فَصَلى عَلَيْهَا ودفنت ".
(الغامدية) امرأة من غامد، وهو بطن من جهينة.
أجاب المالكية على ما ورد من الصلاة على المرجوم بأنه ضعيف وأن معظم الرواة لم يرووه، أو تأولوه بالدعاء له أو إذنه لأصحابه أن يصلوا عليه. وهذه التأويلات إنما يصار إليها عند الضرورة وليست موجودة هنا، فالأولى الأخذ بالظاهر.
--
526 – وَعَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: " أُتي النَّبِي بِرَجُل قتل نَفسه بمشاقص فَلم يصل عَلَيْهِ " رَوَاهُ مُسلم.
(مشاقص) سهام عراض، واحدها مشقص.
هذا الحديث دليل لما ذهب إليه طائفة من العلماء أن قاتل نفسه لا يصلى عليه مطلقا، وذهب الجمهور أنه يصلى عليه. وأجابوا عن هذا الحديث أنه ﷺ لم يصل عليه زجرا لما ارتكبه من المعاصي، وصلى عليه الصحابة. وهذا مثل تركه الصلاة في أول الأمر على من مات وعليه دين، زجرا لهم عن التساهل في الاستدانة وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه، فقال : "صلوا على صاحبكم. فمذهب الجمهور الصلاة على كل مسلم ولوكان محدودا أومرجوما أوقاتل نفسه. وعن مالك أن الإمام يجتني الصلاة على المقتول في الحد، وكذلك أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجرا لهم.
كيفية صلاة الجنازة ودفن الميت وما يتعلق بهما :
الصلاة على الميت من فروض الكفايات وتسن جماعة وتسقط إذا قام بها ولو مكلف واحد، فإن دفنوه قبلها أثموا إذا لم يصل عليه أحد، ويسن أن تكون الصفوف عليه ثلاثة، وكلما كثر الجمع أفضل. وفي ((مسلم)) : ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه))
ويسن أن يقوم الإمام عند صدر الذكر ووسط الأنثى، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة. وعن الإمام أحمد وفاقا للشافعي ومالك وغيرهما عند رأس الرجل، والأمر قريب لأن يقف عند أحدهما لا يقف عند الآخر.
والأولى في إمامة الصلاة على الميت وصيه العدل، فالسلطان، والأولى بوصف الرجل إلى آخر ما ذكره الفقهاء.
وذكروا أنه إذا اجتمعت الجنائز يقدم أفضلهم فأسن فأسبق، ويقرأ مع التساوي، وجمعهم بصلاة واحدة أفضل، ويجعل وسط الأنثى حذاء صدر الرجل.
وأما صفة صلاة الجنازة وهي: أن يكبر أربع تكبيرات، ويقرأ في الأولى بعد التعوذ والبسملة سورة الفاتحة سرا ولو في الليل، وبعد الثانية الصلاة على النبي كما في التشهد الآخر، وبعد التكبيرة الثالثة يدعو ويخلص الدعاء للميت ولو كان مسيئا، فإنه أحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين ولذلك قدموه بين أيديهم.
وقال الموفق: ((الأولى أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين أيضا)) ومن ضيغ الدعاء ما ذكر في الزاد ومختصر المقنع وأصله في صحيح مسلم وسيمر معنا في الدرس يمر معنا ذلك في المحرر.
ولا بأس بالإشارة بالأصبع حال الدعاء للميت. وإذا كان الميت أنثى أنث الضمير فيقول: ((اللهم اغفر له وارحمه)) أو تركه كما هو إرادة للميت بشكل عام.
والحديث في بعض الروايات وهو الحديث الآخر في باب ((الصلاة على الميت)) وهو: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا...)) أي اغفر للمسلمين والمسلمات جميعا. ويلاحظ أنه فيه ((...من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان...)) لأن الإسلام هو العبادات كلها ووجودها في حال الحياة ممكن، والإيمان الأعمال الباطنة وهو شرط في الإسلام. ويكتفى بوجود الإيمان عند الموت.
ثم إن كان الميت صغيرا قال بعد ((ومن توفيته منا)) ((اللهم الجعله ذخرا لوالديه)) أي كالتقدمة لهما بشيء نفيس يكون أمامهما مدخرا إلى وقت حاجتهما له.
((وفرطا)) أي سابقا مهيأ لمصالح والديه في الآخرة، والأصل في الفرط من يتقدم على جماعة واردة ما ليهيء لهم أسبابا في المنزلة.
((...وأجرا وشفيعا مجابا اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الحجيم))
وبعد التكبيرة الثالثة يقف قليلا ليكبر آخر الصفوف، وقيل كما في ((الروض المربع شرح الزاد)) لا يدعو.
وعنه أي الإمام أحمد: يدعو بعد الرابعة، واختاره جمع من فقهاء الحنابلة وفاقا لبقية جماعة من العلماء فيقول مثلا: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)).
وقال بعض العلماء كالشافعية وبعض الحنابلة أنه يقول هنا: ((اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله )) ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه وفاقا للإمام مالك جهرا. وهكذا جاء عن ستة من أصحاب النبي كما قال الإمام أحمد رحمه الله. وذلك لأنه ورد عن الصحابة وأيضا لأن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف. واختار القاضي أي أبو يعلى من الحنابلة قول الشافعية والحنفية وهو أن الواحدة تجزيء والمستحب تسليمتان.
والأفضل أن يكون هذا التسليم عن يمينه ويجوز أن يكون تلقاء وجهه، ويجوز أيضا أن يسلم تسليمة ثانية.
فإذا سلم الإمام الثانية تابعه المأموم، ويسن وقوفه (أي المصلي على الجنازة) مكانه حتى ترفع الجنازة من بين أيديهم.
ويرفع يديه استحبابا مع كل تكبيرة، والرفع في التكبيرة الأولى إجماع وما بعدها وقع فيها الخلاف بين أهل العلم. والواجب في صلاة الجنازة ما تقدم وهو القيام في الصلاة إذا كان قادرا، والتكبيرات الأربع قد صحت الرواية بخمس تكبيرات، وهذا من الاختلاف المباح ولكن الأولى الأربعة.
وأيضا من الواجبات الفاتحة ويتحملها الإمام عن المأموم كما سبق في صفة الصلاة عموما على الخلاف في ذلك.
وأيضا من الواجبات الصلاة على النبي.
وأيضا الدعاء للميت. ثم السلام. ويشترط لها النية، ولا يضر جهله هل الجنازة ذكر أو أنثى، فإن جهل نوى من يصلي عليه الإمام فينوي عن الصلاة في الجنازة الحاضرة.
ومن فاته شيء من التكبير استحب أن يقضيه على صفته قبل الدفن، والمقضي أول صلاة عن الخلاف السابق، فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة ثم راعى بقية التكبيرات ترتيب نفسه لا ما يقوله إمامه.
وعنه يقضيه على صفته مكا تقدم في أحكام مسبوق، وإن خشي رفع الجنازة تابع التكبير حتى تتم أربع تكبيرات من غير ذكر ولا دعاء، وإن سلم مع الإمام ولم يقض التكبير فلا بأس، ومن فاتته الصلاة على الميت صلى على القبر إلى شهر من دفنه. ويصلي على الغائب عن البلد بالنية إلى شهر. وبعض العلماء كما قال في ((الفروع)) لابن مفلح:((بل يؤقت في ذلك وقت، وقيل: سنة، وقيل: ما لم يَبل))
ولا يسن أن يصلي الإمام الأعظم ولا إمام كل قرية وهو واليها في القضاء على من كتم شيئا ممن ظلمه وهو الغال أو الخائن، ولا على قاتل نفسه. وقد صح في ((مسلم)): ((عن النبي أنهم جاؤوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه)) مشاقص: النصب العريض أو سهم فيه نصب. واختار المجد بن تيمية وغيره أنه لا يصلى على كل من مات على معصيته ظاهرة بلا توبة، وذهب الجمهور إلى أنه يصلي على الفاسق وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الصلاة على الغال وقاتل نفسه زجرا للناس. وهذا رواية عن الإمام أحمد أيضا.
ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إن أمن تلويثه، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الجنائز في المسجد، وإنما كان يصلي خارجه، وربما صلى عليها فيه، وكلاهما جائز والأفضل خارجه، كذا قال الإمام ابن القيم في ((زاد المعاد)).
وكره أبو حنيفة ومالك الصلاة على الميت في المسجد. ولا ينبغي القول بالكراهة ولكنه جائز وإن كانت الصلاة عليها خارجه أفضل كما سبق.
وللمصلي فضل عظيم في الصلاة على الجنازة، له قيراط وهو أمر معلوم عند الله.
وذكر ابن القيم أنه رأى لابن عقيل أن القراط نصف سدس الدرهم.
وقال صلى الله عليه وسلم : من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل : وما القيراطان؟، قال صلى الله عليه وسلم : مثل الجبلين العظيمين.
فإذا انتهى تمام دفنها فله قيراط آخر بشرط أن لا يفارقها من الصلاة حتى تدفن.
ويسن التربيع في حمله بأن يحملوا بجوانب السرير كلها.
أي : تُشيّع الجنازة من أهلها ثم تحملها بأكانها الأربعة ثم يدخلها في القبر فذلك تمام الأجر، لكن يكره إذا ازدحموا عليها.
ويسن أن يحملها أربعة يأخذ كل واحد بقائمة من قوائم السرير، والتربيع بأن يضع قائمة السرير اليسرى في المقدم على كتفه الأيمن ثم ينتقل إلى مؤخره ثم يضع قائته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة، و يباح أن يحمل كل واحد على عاتقه بين العمودين وهما قائمتا السرير.
وإن كان الميت طفلا فلا بأس بحمله على الأيدي ويستحب بحمله على النعش، وإن كان امرأة يستحب تغطية نعشها لأنه أستر لها، ويكره تغطيته بغير الأبيض.
لا بأس بحمله على الدابة بغرض صحيح كبعد القبر.
ويسن الإسراع دون الخبب -والخبب السرعة- فيكون الإسراع فوق المشي المعتاد، ولا يبادر في ذلك خشية الأذى، حتى لا يمخِّضها مخضا فلا يؤذي متَّبِعها، فلا يخرج عن المشي الذي يخالف المصلحة بل يكون حسب المصلحة
وإن خيف من الإسراع مشى الهوينة، فلا ينبغي السرعة ولا البطؤ بل يكون عليهم السكينة
ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة ولا بغيرها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ويسن كون المشاة أمامها عند الجمهور وكون الركبان خلفها, والآثار في المشي أمامها أصح وأكثر
ويكره أن يجلس من يتبعها حتى يوضع بالأرض للدفن، إلا لمن سبق إلى القبر لما في انتظاره قائم حتى تصل إليه وتوضع من المشقة، وكره رفع الصوت معها ولو بقراءة أو تهليل لأنه بدعة، وكره أن تتبعها امرأة، ويُسجّى ندبا قبر امرأة.
واللحد أفضل من الشق وكلاهما جائز.
واللحد هو : أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر مكانا يسع الميت، وكونه مما يلي القبلة أفضل، والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانبه.
ويسن أن يعمق ويوسع قبر باللحلد، وحدّه بعضهم بإقامة بسطة، ويكفي ما يمنع من السباع وخروج الرائحة، وقال بعضهم أن يعمق قدر قامة وسط، ويقول مُدخله ندبا بسم الله وعلى ملة رسول الله، ويضعه ندبا في لحده على شقه الأيمن.
ويقدم في دفن الرجل من يقدم بغسله، ويقدم في دفن المرأة محارمها الرجال، وإن كان غير الرجال فلا يكره ولو كان محرمها حاضرا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن ينزل إلى قبر ابنته وهو أجنبي ،فهو غير مكروه
يجب أن يكون في قبره الميت مستقبل القبلة تنزيلا له منزلة المصلي، وينبغي أن يُقرّب من الحائط لأن لا ينكبّ على وجهه، فيُسند وجهه ورجلاه إلى جدار القبلة، ويسند من ورائه بالتراب لأن لا ينقلب، ويجعل تحت رأسه لبنة.
يبنى ويتعاهد على القبر باللبِن ويتعاهد بالمدر والحجارة في أثنائه ليتحمل ما يوضع عليه من طين ونحوه، ثم يحثى عليه التراب ثلاثا باليد ثم يهال عليه بالمساح ونحوها تكميلا للدفن، يهال أي يصب، ويدعى له بعد الدفن عند القبر بالاستغفار ويسأل له التثبيت، ويقال اللهم هذا عبدك وأنت أعلم به منا ولا نعلم منه إلا خيرا –وقد أجلسته لتسأله- اللهم ثيته بالقول الثابت في الآخرة كما ثبته في الدنيا اللهم ارحمه وألحقه بنبيك وله مثلنا بعده ولا تحرمنا أجره.
ويرش بالماء بعد وضع الحسباء عليه لأنه أثبت له وأمنع لترابه من أن تذهب به الرياح، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر ليعرف ويزار ويحترم، ويكون مسلَّما أي محدَّبا وقيل مسطَّحا وهو المربع، ويكره الارتفاع عليه لأنه إيذاء.
ويكره الحديث في أمر الدنيا عند القبور والمشي بالنعال فيها احتراما لأموات المسلمين، فإن القبور دار الموتى ومحل تزاورهم، يلقى بعضهم بعضا على أفوية القبور يتزاورون فيها، ويكره التبسم لأنه مخالف لحال الضعاف وتذكر الآخرة.
وبعد ذلك ذكر صاحب الزاد والروض والحاشية المسائلَ المتعلقة بالقراءة على القبر وإيصال الثواب وإصلاح الطعام لأهل الميت وبعثه إليهم وكراهة أن يفعلوه للناس وأيضا سنية زيارة القبور إلا للنساء وما يقوله الزائر للقبر وذكر أيضا سماع الميت للكلام ومعرفته زائره وسنية تعزية المسلم المصاب بالميت، وجواز البكاء على الميت وسنية الصبر وحرمة الندم والنياحة.
رابعا : كتاب الزكاة
562 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم [خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم] صدقة [في أموالهم] تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم " متفق عليه، واللفظ للبخاري.
فيه البدء بالشهادتين في الدعوة
عن معاذ بن جبل قال: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا - أو تبيعة - ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدله معا فريا ". رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والترمذي (وحسنه، والنسائي، وابن ماجه
الحالم البالغ والدينار أربع غرامات وربع من الذهب
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " رواه مسلم.
الورق بكسر الراء الفضة والوسق ستون صاعا
وعن سمرة بن جندب قال: " أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع " رواه أبو داود.
عروض التجارة فيها ربع العشر
والحديث من طريق جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب قال حدثني خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه .
قال ابن مفلح في "الفروع":" وهذا الإسناد لاينهض مثله لشغل الذِّمَّة لعدم شهرة رجاله ومعرفة عدالتهم ، وقال ابن حزم : جعفر وخبيب مجهولان ، وقال الحافظ عبدالحقّ :"حديث ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه"، وقال ابن القطان :" ما من هؤلاء من يعرف حاله" ، وقد جهد المحدِّثون فيهم جهدهم ، وانفرد الحافظ عبدالغنيّ المقدسيّ بقوله : إسناده مقارب" ، والذي وجدته هو أن النقاد يقولون عن الراوي حديثه مقارب أو يقولون مقارب الحديث ويذكر هذا اللفظ في المصطلح في آخر مراتب ألفاظ التعديل ممن لا يُحَسَّن حديثهم ، إلا أنّ الإمام البُخَاريّ وتلميذه الإمام الترمذي يطلقانه فيمن يحسنان حديثه بل وجدت البخاريّ يطلقه فيمن يصحح حديثه ، وربما قيل إنه تصحيح بالشواهد أو أنّ إطلاقه الحسن إنما هو على المعنى اللغويّ ، ومن ذلك قول الترمذي في إسماعيل بن رافع : قد ضعفه بعض أصحاب الحديث ، وسمعت محمّداً - يعني البُخَاريّ - يقول:"هو ثقة مقارب الحديث" ، ويبدو أنّ رأي الحافظ عبدالغنيّ موافقٌ لرأيهما فقد روى الحديث نفسه في الجامع الصغير من طريق أبي داود بهذا السند ثمّ قال:"إسنادٌ حسنٌ غريب" ، وقال في موضع آخر من "الجامع الصغير" أيضاً :" وهذا الإسناد على شرط أبي داود أخرج به عدّةَ أحاديث وهو إسناد حسنٌ غريبٌ " .
580 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس " متفق عليه.
(العجماء) : أي: البهيمة والدابة وسميت بها لعجمتها، وكل ما لم يقدر على الكلام فهو أعجمي (جبار) : بضم الجيم أي: هدر ، وإنما يكون جرحها هدرا إذا كانت متفلتة عاثرة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق
582 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ آخر: " فعدل الناس به نصف صاع من بر ".
تجب زكاة الفطر شرعاً على من فضل يوم العيد وليلته صاع زائد عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية.
قال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله : والصاع مكيال يقدر به الحجم، نقل إلى المثقال الذي يقدر به الوزن نظراً؛ لأن الأزمان اختلفت والمكاييل اختلفت، فقال العلماء: ونقلت إلى الوزن من أجل أن تحفظ؛ لأن الوزن يحفظ، واعتبر العلماء ـ رحمهم الله ـ البر الرزين، الذي يعادل العدس وحرروا ذلك تحريراً كاملاً، وقد حررته فبلغ كيلوين وأربعين جراماً من البر الرزين.
589 - وعن جبير بن مطعم قال: " مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بنو المطلب وبنو هاشم، شيء واحد " رواه البخاري.
المراد بآل رسول الله e وأقاربه الذين تحرم عليهم الصدقة كما في حديث أبي هريرة t قال كنا عند رسول الله e وهو يقسم تمرا من الصدقة والحسن بن علي في حجره فلما فرغ حمله النبي e على عاتقه فسال لعابه على خد النبي e فرفع إليه النبي e رأسه فإذا تمرة في فيه فأدخل النبي e يده فانتزعها منه ثم قال له أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد e .
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
واتفق العلماء على تفسير الآل ببني هاشم ، وعلى أن الصدقة المفروضة محرمة عليهم ، تكريما لهم.
زاد الشافعي على بني هاشم فألحق بهم بني المطلب واستدل على ذلك بهذا الحديث ووافقه بعض المالكية وجعله بعض شيوخهم هو المذهب ، ولكن الذي عليه مالك وأكثر أصحابه أنهم بنو هاشم فقط، وكذلك وافقه وأحمد في رواية عنه اختارها بعض أصحابه ، ولكن المذهب الذي عليه جمهور الحنابلة هو على الرواية الأخرى الموافقة لقول الجمهور ، ورد ابن قدامة قياس بني المطلب على بني هاشم بأنه لا يصح لأن بني هاشم أقرب إلى النبي e وأشرف وهم آل النبي e ، ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل أن بني عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئا وإنما شاركوهم بالنصرة أو بهما جميعا ، والنصرة لا تقتضي منع الزكاة.
ويحتاج فهم قوله إنما بنو المطلب وبنو هاشم، شيء واحد إلى تقديم نبذة عن الأنساب:
فنبينا الطيب المبارك هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - واسمه شيبة الحمد - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف - واسمه المغيرة ومناف اسم صنم أضيف عبد إليه - بن قُصَيّ - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر ، وإلى فهر جماع قريش ، وقصي هو الذي جمع قريشاً فيدعى مجمِّعا وبه سميت قريش قريشاً حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرقها فذلك التجمع هو التقرش فكان شريف أهل مكة ، المطاع بها ، وبعد موته قام على أمره ابنه عبد مناف ، وبنو عبد مناف هم عشيرة النبي e .
ومن أولاد عبد مناف - الأب الرابع للنبي e - : هاشم والمطلب وعبد شمس وهؤلاء الثلاثة أشقاء أمهم عاتكة بنت مرة بن هلال من بني سليم ، ونوفل وهو أخوهم لأبيهم أمه واقدة بنت أبي عدي واسمه نوفل بن عبادة من بني مازن بن صعصعة ، وكان بين هاشم وأخيه المطلب ائتلاف وكان يقال لهاشم والمطلب البدران ولعبد شمس ونوفل الأبهران ، ومن اتفاقهما أن هاشما أوصى إلى المطلب فكان بنوهما يداً واحدة ، وكان هاشم قد تزوج امرأة من بني النجار بالمدينة فولدت له شيبة الحمد جد رسول الله e ، ثم توفي هاشم ، وابنه شيبة بالمدينة عند أخواله ، فلما ترعرع خرج إليه عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه من أمه وقدم به مكة وهو مردفه على راحلته فقيل : عبد ملَكَه المطلب ، فغلب عليه هذا الاسم فقيل له عبد المطلب .
وانقطع نسل هاشم إلا من ابنه هذا الذي صار سيد قريش ، وولد اثني عشر رجلا ، والعقِب لأربعة منهم : الحارث والعباس وأبي لهب وأولاد أخيهم أبي طالب وهم جعفر وعَقيل وعلي.
فهؤلاء هم سلالة هاشم الذين تحرم عليهم الصدقة.
ثم إن كفار قريش تحالفوا على بني هاشم وكتبوا الصحيفة القاطعة بينهم وبين بني هاشم ، وتبايعوا فيها على أن لا يجالسوا بني هاشم ولا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم النبي e وبقوا على ذلك سنة ، فلم يدخل في بيعتهم بنو المطلب ، بل دخلوا مع بني هاشم في الشِّعب ، ولم تدخل معهم بنو نوفل وبنو عبد شمس.
فلما أنزل الله تعالى قوله تعالى : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ " الآية ، وأعطى رسوله e سهم ذي القربى من الخمس بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط بني عبد شمس الذين كان منهم عثمان بن عفان ولا بني نوفل الذين كان منهم جبير بن مطعم شيئاً مع كونهم بمنـزلة واحدة من القرابة كما سبق بيانه بالقدر الذي يحتمله المقام ، وبيـّن أن سبب ذلك أن بني هاشم والمطلب شيء واحد لم يفارق أحدهما الآخر في جاهلية ولا إسلام.
ومن اللطائف أن الشافعي من صَليـبة بني المطلب بن عبد مناف من قِبل آبائه فهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، والله أعلم .
598 - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " متفق عليه.
قوله شماله ما تنفق يمينه هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره.
ووقع في صحيح مسلم مقلوبا حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله وهو نوع من أنواع علوم الحديث
خامسا : كتاب الصيام
- بَاب فرض الصَّوْم
615 - عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا تقدمُوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين)). هذا الحديث أخرجه الشيخان و فيه نهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، أي لا تستقبلوا رمضان بصيام تنوون به الاحتياط له. هكذا قيل.
و نوزع بأن الحديث عام فيشمل النفل المطلق و النذر. ولا يستثنى منه إلا من كان له أيام يعتادها فتوافقت آخر شعبان.
و النهي في هذا الحديث قيل هو للكراهة نظرا للاستثناء بعده، و قيل للتحريم اعتبارا لظاهر النهي و الأصل فيه أنه للتحريم.
وما الحكمة في هذا النهي؟
1. قيل أنه للتقوي لرمضان، أي ليدخل الإنسان شهر رمضان بهمة و نشاط
2. خشية اختلاط النفل بالفرض
3. المعتمد أن النهي من أجل كون الصوم معلقا برؤية الهلال.
فمن تقدم الشهر فكأنه غير الحكم الشرعي.
و التقدم بالصوم أكثر من يوم أو يومين هل يجوز؟
1. قيل نعم، باعتبار مفهوم الحديث. أن الحديث "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين" مفهومه أنه لو نتقدمه بثلاثة أيام جاز ذلك.
2. و قيل لا مفهوم له و النهي جرى مجرى الغالب. لأن غالبا من يريد التقدم سيتقدم بيوم أو يومين.
قوله صلى الله عليه و سلم" إلا رجل كان يصوم" أي إلا من اعتاد صيام أيام فوافقت نهاية شعبان فلا مانع من ذلك, و يلحق بهذا الاستثناء ماكان واجبا وهو قضاء الإنسان قضاء رمضان و بقي يوم أو يومان من شعبان و كان عليه صوم يوم أو يومين جاز له ذلك.
وأيضا أن من نذر كمن نذر أنه إذا نجح في الامتحان أو شفي مريضه أو غير ذلك, فيصوم و حصل هذا الذي نذر في آخر شعبان, فيجوز أن يصوم ذلك أو يصوم لأجل ذلك.
وفيه جواز أن يقال رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة قال النووي في شرح مسلم وهو المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون وهو الصواب، وقالت طائفة لا يقال رمضان على انفراده بحال، وإنما يقال شهر رمضان وهذا قول أصحاب مالك وزعم هؤلاء أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا يطلق على غيره إلا أن يقيد، وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة وإلا فيكره. قالوا فيقال صمنا رمضان وقمنا رمضان ورمضان أفضل الأشهر ويندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان وأشباه ذلك ولا كراهة في هذا كله، وإنما يكره أن يقال جاء رمضان ودخل رمضان وحضر رمضان وأحب رمضان ونحو ذلك. قال النووي وهذان المذهبان فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت فيه نهي، وقولهم أنه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح ولم يصح فيه شيء وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف وأسماء الله تعالى توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة.
617,616 - عَن ابْن عمر قَالَ، سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: " إِذا رَأَيْتُمُوهُ فصوموا، وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غُم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ " مُتَّفق عَلَيْهِ وَلمُسلم - " فَإِن أُغمي عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ ثَلَاثِينَ " - وللبخاري: " فَإِن غُم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ ". وَله من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " فَإِن غُبِّي عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ ".
تخريجه: أخرجه الشيخان و فيه موضع الشرح في إسناده و في متنه من جهة "فاقدروا له" ، و لفظ آخر وهو " فأكملوا عدة شعبان."
أيضا فيه شرح بعض الكلمات الغريبة.
أولا : إذا رأيتموه : أي إذا رأيتم الهلال.
ثانيا : إذا رأيتموه فصوموا : أي هلال رمضان.
ثالثا : إذا رأيتموه فأفطروا : أي هلال شوال.
رابعا : غم : أي حال بينكم و بينه غيم. و في حديث أبي هريرة "غبي" من الغباوة، و هي عدم الفطنة، أي استعارة لخفاء الهلال.
خامسا : أيضا فيه "فاقدروا له"، أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام ثلاثين يوما كما في الرواية الأخرى "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين."
هذا قول الجمهور و في ذلك رأي آخر "فاقدروا له" أي ضيقوا له.
و ذهب إليه الحنابلة كما سنذكر بيانه إن شاء الله تفصيلا.
وقد أنصف الإمام ابن عبد الهادي فقال في تنقيح التحقيق : الذي دلت عليه أحاديث هذه المسألة أن أيّ شهر غُمّ أُكمل ثلاثين .
وقيل : قدروه بحساب المنازل
إذا رأيتموه أي رآه بعضكم و ناب عن الآخرين للاعتماد عليه لأنه عدل و أخبر برؤيته هلال رمضان, فيكفي في دخول هلال الشهر واحد. بخلاف خروجه أي هلال شوال فيجب فيه اثنان على تفصيل و بيان سأذكره إن شاء الله .
في هذه المسألة إذا رئي في الليل أي عند المغرب. و أما لو رئي في النهار الثاني فهل هو لليلة المستقبلة أو الماضية؟ هذا فيه أيضا لا يحتاج إلى بيان.
أيضا "إذا رأيتموه", هل هذا حكم لجميع الأمة أم للبلد؟ أي يعني هل تختلف المطالع؟ أم هذا الحكم عام لجميع بلاد المسلمين؟
وأخيرا مسألة الحساب الفلكي. هل الرؤية بالعين؟ أم لوعلم أنه وجد الهلال و طلع الشهر، دخل الشهر، هل يكفي للحساب الفلكي أم لا؟
و يتعلق بهذا الحديث حديثان بعده، حديث ابن عمر رضي الله عنهما له طريقان بعده.
الأول : في "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما." هذا الحديث أخرجه أبو داود.
و فيه اعتبار العدالة في شهادة الصوم, و عورض بأنه صلى الله عليه و سلم قبل شهادة أعرابي دون اختباره, وأجيب بأنه كان قد أسلم في ذلك الوقت فهو عدل بمجرد ذلك و ذهب البعض إلى ضعف الحديث.
و فيه قبول شاهدين. وعورض بحديث ابن عمر للثالث الذي هو الرابع في الباب "ترآءى الناس الهلال" و هو الحديث الذي بعده. فإن فيه قبول رجل واحد، ولكن هذا صريح المقدم عليه.
ولذا اختلف العلماء في هذه المسألة، هل يقبل واحد أم اثنان في دخول رمضان. و أما في خروجه فاتفقوا على اشتراط اثنين إلا ما حكي عن أبي ثور. والله أعلم.
وثبوت هلال رمضان عند أكثر أهل العلم يكتفى فيه بعدل واحد
618 - وَعَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ، عَن حُسَيْن بن الْحَارِث الجدلي، أَن أَمِير مَكَّة خطب ثمَّ قَالَ، قَالَ عَلّي: " عهد إِلَيْنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن ننسك للرؤية، فَإِن لم نره وَشهد شَاهدا عدل نسكنا بِشَهَادَتِهِمَا. فَسَأَلت الْحُسَيْن بن الْحَارِث، من أَمِير مَكَّة؟ قَالَ [لَا أَدْرِي، ثمَّ لَقِيَنِي بعد فَقَالَ: هُوَ] الْحَارِث بن حَاطِب أَخُو مُحَمَّد بن حَاطِب، ثمَّ قَالَ الْأَمِير: إِن فِيكُم من هُوَ أعلم بِاللَّه وَرَسُوله مني، وَشهد هَذَا من رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى رجل، قَالَ الْحُسَيْن: فَقلت لشيخ إِلَى جَنْبي: من هَذَا الَّذِي أَوْمَأ إِلَيْهِ الْأَمِير؟ قَالَ: هَذَا عبد الله بن عمر وَصدق، وَهُوَ أعلم بِاللَّه مِنْهُ. فَقَالَ: بذلك أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفظه، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: (هَذَا إِسْنَاد صَحِيح مُتَّصِل).
هو من مسند أمير مكة الحارث بن حاطب الجُمَحيِّ
619 - وَعَن أبي بكر بن نَافِع، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر قَالَ: " ترَاءَى النَّاس الْهلَال فَأخْبرت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنِّي رَأَيْته، فصَام وَأمر النَّاس بصيامه " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، (وَقَالَ: (عَلَى شَرط مُسلم)) .
620 - وَعَن ابْن عمر، عَن حَفْصَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من لم يبيت الصّيام، قبل الْفجْر، فَلَا صِيَام لَهُ " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، (وَقَالَ: (لَا نعرفه [مَرْفُوعا] إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقد رُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَوْله وَهُوَ أصح) . وَقَالَ النَّسَائِيّ (وَالصَّوَاب عندنَا أَنه مَوْقُوف) ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: (قد اخْتلف عَلَى الزُّهْرِيّ فِي إِسْنَاده وَفِي رَفعه، وَعبد الله بن أبي بكر أَقَامَ إِسْنَاده وَرَفعه، وَهُوَ من الثِّقَات الْأَثْبَات))
الحديث (٦٢٠) ((عن ابن عمر، عن حفصة، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "من لم يبيت الصيام….."))
اختلاف بين مذهب الجمهور و الحنفية :
و قد ذهب إليه الجمهور في رمضان و أجازوا النفل بنية النهار. و أما الحنفية فأجازوا النية من النهار في رمضان، وخالفوا الجمهور في النفل و أوجبوا النية من الليل في القضاء و النذر و ما شابه ذلك.
هل يشترط النية لكل يوم أم يكفي للشهر كله؟
621 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " دخل عليّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذَات يَوْم فَقَالَ: هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ فَقُلْنَا لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذا صَائِم، ثمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخر فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله أُهدي لنا حيس فَقَالَ: أرنيه، فَلَقَد أَصبَحت صَائِما فَأكل ". وَفِي لفظ: " قَالَ طَلْحَة - وَهُوَ ابْن يَحْيَى -: فَحدثت مُجَاهدًا بِهَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: ذَلِك بِمَنْزِلَة الرجل يخرج الصَّدَقَة من مَاله، فَإِن شَاءَ أمضاها وَإِن شَاءَ أمْسكهَا " رَوَاهُ مُسلم
ما يستفاد منه : فيه جواز صوم التطوع بنية من النهار.
حيس : و هو التمر مع السمن و الأقط
622 - وَعَن سهل بن سعد أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا يزَال النَّاس بِخَير مَا[1] عجلوا الْفطر ".
و ما يستفاد منه : دليل استحباب تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس مخالفة لليهود.
"ما" ظرفية
623 - وَعَن أنس بن مَالك قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " تسحرُوا فَإِن فِي السّحُور بركَة " مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
ما يستفاد منه : في فضل السحور, و فيه أنه ليس بواجب إجماعا, ثم معنى بركة السحور.
624 - وَعَن سلمَان بن عَامر الضَّبِّيّ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " إِذا أفطر أحدكُم فليفطر عَلَى تمر، فَإِن لم يجد فليفطر عَلَى مَاء فَإِنَّهُ طهُور " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ وَهَذَا لَفظه، (وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَقَالَ: (عَلَى شَرط البُخَارِيّ)) .
حديث سلمان بن عامر ، وقال الترمذي عنه في الصوم حسن صحيح مع جهالة الرباب الضبية وليس ذلك من تساهله وغلطه ولا خطأ من النساخ لأنه هكذا في تحفة الأشراف أيضا فقد يريد أنه حسن بهذا السند صحيح لغيره، لكن يشكل عليه أنه كان اكتفى بتحسينه حين رواه في الزكاة فلعله أراد أنه حسن لغيره كما هو اصطلاحه في الحسن ، وصحح الحديث في الصوم لكونه في الآداب ، وسهل ذلك أيضا كونها تابعية تروي عن عمها .
وقد صححه أبو حاتم وقد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه و سلم، كما في حديث آخر عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.
وفي البدر المنير (5/ 697) : " قال الترمذي: هذا حديث حسن (صحيح). ولعله علم حال الرباب بنت صليع فإنها مستورة، وقد ذكرها ابن حبان في ثقاته. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم في «علله»: سألت أبي عنه فقال: صحيح من طريقيه. وقال الحافظ أبو الحجاج المزى: استشهد بها البخارى ـ يعنى ذكر حديثها فى صحيحه تعليقاً ـ وروى لها الباقون سوى مسلم . ويعنى الحافظ باستشهاد البخارى بها ؛ تقوية أمرها والاعتبار بمتابعتها ، فقد علَّق البخارى حديثها فى كتاب العقيقة عقب حديث سلمان بن عامر مع الغلام عقيقة، فقال : وقال غير واحد عن عاصم وهشام عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان عن النَّبىِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم " .
وهو دليل استحباب الإفطار بالتمر. وذكر ابن القيم فائدته الصحية للمفطر .
625 - وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " نهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن الْوِصَال، فَقَالَ رجل من الْمُسلمين فَإنَّك يَا رَسُول الله تواصل؟ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وَأَيكُمْ مثلي؟ إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني، فَلَمَّا أَبُو أَن ينْتَهوا عَن الْوِصَال وَاصل بهم يَوْمًا، ثمَّ يَوْمًا، ثمَّ رَأَوْا الْهلَال، فَقَالَ: لَو تَأَخّر الْهلَال لزدتكم! كالمنكِّل لَهُم - حِين أَبَوا أَن ينْتَهوا " مُتَّفق عَلَيْهِ وَاللَّفْظ لمُسلم.
يَسقيني ويُسقيني بالفتح والضم والفتح أشهر.
وفي بعض الروايات: (( فاكلفوا من العمل ما لكم به طاقة ))
قوله: (( فاكلَفوا )) : خذوا وتحملوا.
وقوله: (( كالمنكل لهم )) أي كالمعاقب لهم.
و(( الوصال )) : أن يترك الأكل والشرب في الليل بين صومين عمدا بلا عذر، أي يترك ما أبيح له -عند الجمهور- من الأكل والشرب وأيضا من المفطرات.
وهو منهي عنه كما في هذا الحديث, كراهة (مكروه) عند الجمهور، والأصح عند الشافعية كراهة التحريم، وأجازه ابن الزبير رضي الله عنه فكان يواصل نصف شهر, وكذلك ابن وضاح من المالكية : كان يواصل أربعة أيام. وعند الإمام أحمد وبعض المالكية : يجوز إلى السحر ويكره زيادة على ذلك.
والحكمة في النهي: الرفق بهم خشية الضعف والضرر، وقيل خشية أن يفترض عليهم، وقيل لمخالفة النصارى.
وحكي عن الجمهور أنه من خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم
1. وقولهم: (( إنك تواصل )) دليل على استواء المكلفين في الأحكام في الأصل.
2. وقوله: (( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )) الأصح عند النووي رحمه الله أعطى قوة الطاعم الشارب من غير شبع ولا ري ، وليس المراد حقيقة الأكل فإنه لا يبقى مواصلا ، وقيل : يخلق فيه الشبع بلا أكل والري بلا شرب: ذهب ابن حبان إليه حتى إنه ضعّف حديث وضع الحجر على بطنه وذلك مردود، وقيل بل هو على ظاهره يؤتى بطعام وشراب من الجنة. ورجح الإمام ابن القيم رحمه الله أنه ينشغل بمحبة الله وبما يرد عليه من الفهوم عن الطعام والشراب والله تعالى أعلم.
626 - وَعنهُ قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله تَعَالَى حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
(( من لم يدع )) أي لم يترك. زاد البخاري في الأدب "الجهل" أي (( من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به )) والضمير في "به" يعود على قول الزور.
وبناء على الرواية الثانية يعود على الجهل, والمعنى متقارب.
والمراد ب(( قول الزور)): الكذب.
والمراد ب(( الجهل)): السفه والعمل به.
والمراد ب(( العمل به)): أي بمقتضاه.
قوله (( فليس لله حاجة في أن يدع طعامه )) أي أن يترك طعامه.
هذا تحذير من قول الزور وما ذكر معه وليس معناه أنه يترك صيامه بل هو على التحذير والتعظيم.
وقوله: (( ليس لله حاجة )) لا مفهوم له، لأن الله لا يحتاج إلى شيء بل معناه ليس لله إرادة في صيامه, وهو كناية عن عدم القبول. والله أعلم. مثل قوله تعالى: (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) فإن معناه لن يصيب رضاه الذي ينشأ منه القبول.
قال ابن العربي رحمه الله : "مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه". وقال البيضاوي: "ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة بالسوء". والله تعالى أعلم.
وهذه الأفعال تنقص الصوم. وذهب ابن حزم رحمه الله ( الظاهرية) إلى أنها (المعاصي) تفطر الصائم فهي تنقض الصوم.
627 - وَعَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من فطّر صَائِما كتب الله لَهُ أجره إِلَّا أَنه لَا ينقص من أجر الصَّائِم شَيْء " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَهَذَا لَفظه، وَابْن مَاجَه، وَابْن حبَان، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، (وَصَححهُ) .
بعد ذلك حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه مرفوعا: (( من فطر صائما كتب الله له أجره إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء )). هذا الحديث رواه الإمام أحمد، والإمام الترمذي وقال : حسن صحيح، وأيضا رواه الإمام النسائي في الكبرى، وابن حبان، وغيرهم.
هذا الحديث يدل على فضيلة تفطير الصائم ويقع ذلك بأدنى ما يطلق عليه الاسم ولو بتمرة واحدة، وذهب بعض العلماء إلى أنه ينبغي أن يكون في حق من يشبعه.
وهذا الحديث (( فطر...فله مثل أجره أو كتب الله له أجره)) الضمير يرجع إلى الصائم سواء كان صوم فرض أو صوم نفل.
وهذا الحديث دليل على فضيلة التعاون على الخير وأن من أعان غيره في شيء من أعمال البر والخير كان له مثل أجره، فمن أعان مؤمنا على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل أجر العامل. والله تعالى أعلم.
628 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقبّل وَهُوَ صَائِم ويباشر وَهُوَ صَائِم، وَلكنه كَانَ أملككم لأربه " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم.
629 - وَله عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " كَانَ رَسُول الله يقبل فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم ".
*حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل و هو صائم و يباشر و هو صائم لكنه كان أملككم لإربه. متفق عليه. و في لفظ لمسلم "يقبل في رمضان."*
أيضا في لفظ عند مسلم :"يقبلني."
و في لفظ عند الشيخين :"كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت."
"الإرب" اختلف في ضبط هذه الكلمة، إِرْب و أَرَب. بكسر الهمزة و إسكان الراء و بفتحهما. وذهب الخطابي والقاضي عياض و النووي إلى أن الأول أشهر "الإرب" و نقل ابن الأثير "الأرب" على أكثر المحدثين. واختلف في معناه أيضا.
فقال الخطابي: معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها. والأرب أيضا العضو، و قال النووي رحمه الله معناه بالكسر الوطر والحاجة وكذلك بالفتح ولكن يطلق المفتوح أيضا على العضو
وأما ابن الأثير فقال بالعكس بالفتح و الحاجة و بالكسر فيه وجهان الحاجة أيضا أو العضو.
و قال القاضي عياض في مشارق الأنوار برواية الكسر فسروه بالحاجة وبالعضو.
إذن, الإرب العضو عند ابن الأثير ، الإرب فيه وجهان الحاجة أو العضو. و أما الأرب فهو الحاجة و الظاهر أن هذا هو كلام الخطابي و غيره, فالأقرب أن الإرب هو الذي فيه وجهان، وأما الأرب فهو الحاجة.
و أيهما أرجح؟ هل هو الحاجة أم هو العضو؟ الأقرب أنه بكسر الهمزة والمعتمد في معناه هنا: الحاجة ، لأنه جاء في الحديث في الموطأ "و أيكم أملك لنفسه من رسول الله صلى الله عليه و سلم"، فالأرب هو الحاجة و إذا قيل الإرب أيضا يراد به هنا "الحاجة" أيكم أغلب لهواه و لحاجته.
و إذا قلنا إنه العضو فهو عضو مطلق
لكن القرينة؛ التقبيل و المباشرة و قرينة كون الصائم ممنوعا من الجماع فهذه القرينة تدل أن المراد بالعضو هنا عضوا مخصوصا و هو يعني الفرج.
والعضو هكذا فسر الإرب بالعضو مطلقا و قال في المحكم الإرب العضو المؤخر الكامل الذي لم ينقص منه شيء. إذن, هذا ما يتعلق بالإرب و الأرب.
النقطة الثالثة بعد التخريج و تفسير كلمة الإرب حكم القبلة والمباشرة للصائم.
ما حكم القبلة و المباشرة للصائم؟
كماهو واضح أن الصوم يمنع فيه شهوة الإنسان و يحل للإنسان أن يقضي شهوته في الليل, كما قال تعالى : ((أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم و أنتم لباس لهن ،علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)).
فالأصل في الصوم الامتناع عن الشهوة .
ثم جاء هذا الحديث يبين لنا إباحة القبلة للصائم.
واختلف العلماء في ذلك.
١. فذهب طائفة منهم إلى الإباحة و هذا يعني ظاهر هذا الحديث. وهو قول جمع من العلماء من الصحابة و من بعدهم وهو اختيار ابن عبد البر وهو مذهب الإمام أحمد.
٢. و ذهب آخرون إلى الكراهة وقالوا إنها تجرح الصوم وإنها شهوة, والصوم إنما يكون من الشهوة, بل ذهب بعضهم أنه يفطر إذا قبّل في رمضان : جاء هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن سعيد بن المسيب رحمه الله و القول بالكراهة هو قول مالك رحمه الله.
٣. و القول الثالث في المسألة هو التفريق بين الشيخ و الشاب فتكره للشاب دون الشيخ و هذا محكي عن جمع من الصحابة و التابعين منه ابن عباس وبن عمر و حكي أيضا عن مالك رحمهم الله جميعا.
٤. القول الرابع وهو شبيه بالقول الثالث وهو التفريق بين من يأمن على نفسه الجماع و الإنزال فيباح له, و بين من لا يأمن على نفسه فيكره في حقه. و هذا مذهب الحنفية والشافعية.
والفرق بين الشافعية والحنفية أن الحنفية قالوا بالكراهة وأما الشافعية فذهب بعضهم إلى الكراهة التحريمية ، يعني شددوا في ذلك أكثر من الحنفية.
إذن قولهم من لا يأمن على نفسه أو من تحرك القبلة شهوته فعند الحنفية والشافعية تكره في حقه, لكن عند الشافعية في الأصح أنها كراهة التحريم. طبعا هذا أيضا قريب من الذي قبله وهو التفريق بين الشيخ و الشاب بناء على أن الشاب في الغالب هو لا يأمن على نفسه وأن الشهوة تتحرك بالقبلة عندهم.
فالفرق بينهما أن الشاب مظنة فأصحاب القول الثالث ذهبوا إلى المظنة والله أعلم.
فعلى القول الرابع العبرة هو تحرك الشهوة وخوف الإنسان -سواء كان شابا أو شيخا قويا-، و إذا كان شيخا لا تحرك شهوته أو شابا ضعيفا لم تحرك شهوته لا يكره.
٥. القول الخامس مذهب الحنابلة إذا كان المقبل ذا شهوة مفرطة بحيث أنه يغلب على نفسه أنه إذا قبل أنزل لم يحل له وإن كان ذا شهوة لكن لا يغلب على ظنه ذلك كره له. وإما مما لا تحرك القبلة شهوة فالكراهة روايتان, وهو أيضا قريب مما قبله لكن بينهما فرق.
٦. القول السادس : التفريق بين صيام الفرض فيكره فيه و صيام النفل فلا يكره. وهذا رواية ابن وهب عن مالك، لكن يرده الرواية التي في مسلم "كان يقبل في رمضان" فالأصل أنهما سواء. والله تعالى أعلم.
والأقرب هو قول الجمهور : تباح القبلة للصائم إن أمن على نفسه الجماع والإنزال
630 - وَعَن ابْن عَبَّاس: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احْتجم وَهُوَ محرم، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
631 - وَعَن شَدَّاد بن أَوْس: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَتَى عَلَى رجل فِي البقيع وَهُوَ يحتجم - وَهُوَ آخذ بيَدي لثمان عشرَة خلت من رَمَضَان - فَقَالَ: أفطر الحاجم والمحجوم " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفظه، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن حبَان وَالْحَاكِم (وَقَالَ: (هَذَا حَدِيث ظَاهِرَة صِحَّته) وَصَححهُ أَيْضا أَحْمد، وَإِسْحَاق، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَعُثْمَان الدَّارمِيّ وَغَيرهم) ، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: (ثبتَتْ الْأَخْبَار عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ: " أفطر الحاجم والمحجوم ")) .
632 - وَعَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " أول مَا كُرهت الْحجامَة للصَّائِم أَن جَعْفَر بن أبي طَالب احْتجم وَهُوَ صَائِم فَمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أفطر هَذَانِ! ! ثمَّ رخص النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد فِي الْحجامَة للصَّائِم. وَكَانَ أنس يحتجم وَهُوَ صَائِم " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (وَقَالَ: (كلهم ثِقَات وَلَا أعلم لَهُ عِلّة) ، وَفِي قَوْله نظر من غير وَجه) . وَالله أعلم.
أحاديث الحجامة الثلاثة و بعدها حديث القيء وهما مما اختلف في كونه مفطرا للصائم وكونهما إخراجا فجمعهما البخاري في ترجمة واحدة.
فأما أحاديث الحجامة فأولها حديث بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
(رواه البخاري). احتجم و هو محرم و احتجم و هو صائم
و هذا يدل على أن الحجامة لا تفطر و هو مذهب الجمهور. وخالفهم الإمام أحمد فذهب بأن الحجامة تفطّر و وافقه من الشافعية ابن خزيمة و ابن المنذر و ابن حبان و أبو الوليد النيسابوري و من المالكية الداودي.
وذهب الجمهور إلى حديث ابن عباس و قالوا إن الحجامة لا تفطر و أجابوا عن حديث أفطر الحاجم و المحجوم إما بتضعيفه أو بنسخه و قالوا إنه كان في عام الفتح و إن حديث احتجم وهو محرم كان في حجة الوداع فهو متأخر و أيضا أيدوا ذلك بحديث أنس رضي الله عنه وهو الحديث الثالث في الباب وهو حديث كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم و هو صائم فمر النبي صلى الله علي و سلم فقال أفطر هذان ثم رخص النبي صلي الله عليه وسلم بعدُ بالحجامة بالصائم. و لكن هذا الحديث و إن كان قال الدارقطني كلهم ثقات فإنه معلول كما قال ابن عبد الهادي في قوله نظر من غير الوجه وأيضا ابن القيم بين ضعفه في تهذيب السنن.
وخلاصة ذالك أنه حديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة و المسانيد المعروفة وإنما أخرجه الدارقطني وأيضا فيه ضعف خالد بن مخلد له مناكير, وأيضا شيخه رواه عبدالله بن المثنى وليس بالقوي وقد روى غيره عن ثابت خلاف ما روى, والذي روى عن ثابت خلافه هو شعبة أمير المؤمنين في الحديث. وأيضا إن الناسخ يجب أن يكون في رتبة المنسوخ وهذا حديث الواحد, وحديث أفطر الحاجم والمحجوم جاء عن عدد من الصحابة. وأيضا فيه نكارة من جهة المتن أن جعفر رضي الله عنه إنما قدم من الحبشة عام خيبر, وقتل عام مؤتة ولم يشهد الفتح فكيف يحصل ذلك, وإنما صام مع النبي صلي الله عليه وسلم رمضان واحدا ولم يحضر الفتح. وهذه القصة كانت في الفتح. والله أعلم.
وذهب طائفة ممن رأى قول الجمهور إلى تضعيف حديث أفطر الحاجم والمحجوم و ممن ذهب إلى تضعيفه ابن معين فقد قال: ليس فيه شيء يثبت .
ولكن المعتمد أن الحديثين صحيحان حديث أفطر الحاجم و المحجوم وحديث احتجم النبي صلي الله عليه وسلم وهو صائم واحتجم وهو محرم فكلاهما صحيح, لكن اختلف العلماء بعد ذلك هل أحدهما ناسخ فإن كان أحدهما ناسخ فالأقرب في ظني والله أعلم أن حديث ابن عباس يكون ناسخا ويكون حديث أفطر الحاجم المحجوم منسوخا، أو يجاب عنه بأنه محمول على معنى مقاربة الإفطار والتعرض له, أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى الجوف عند المس وأما المحجوم فإنه لا يأمن ضعفه بخروج الدم إلى فيؤول أمره إلى أن يفطر، والله أعلم.
633 - وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه، فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظ مُسلم، وللبخاري: " فَأكل وَشرب " وَالدَّارَقُطْنِيّ (وَالْحَاكِم وَصَححهُ) : " من أفطر فِي رَمَضَان نَاسِيا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة ".
ذهب الجمهور إلى عدم وجوب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا.
وعن مالك رحمه الله: "يبطل صومه ويجب عليه القضاء"، أجاب الداودي :"لعل مالكا لم يبلغه الحديث أو أوّله على رفع الإثم" , وذهاب مالك هو من جهة القياس لأن الصوم فات ركنه وهو من باب المأمورات, والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات.
وأما من لم يوجب القضاء وهم الجمهور, فعمدتهم هذا الحديث, لأنه أمر بالإتمام وسمى الذي يتمه صوما, والظاهر حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا الحقيقة اللغوية.
وتعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب لأن نسيان المباشرة وما ألحق بها نادر بالنسبة إليهما وحكم الغالب لا يقتضي مفهوما.
واختلف القائلون بالإفساد, هل يوجب القضاء والكفارة, أم يوجب القضاء فقط في الجماع, مع اتفاقهم على أن أكل الناسي لا يوجبها, ومدار كل ذلك على قصور حالة المجامع ناسيا على حالة الآكل, ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس.
واحتج ابن العربي لمالك بأن الفطر ضد الصوم, والإمساك ركن الصوم فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة, وتأوله على أن معناه: لا قضاء عليك الآن. وحمله المالكية على سقوط المؤاخذة أو يحمل الحديث عل صوم التطوع.
ويجاب على قولهم بقوله تعالى {.... ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } فالنسيان ليس من كسب القلوب, وأيضا أن هذا الحديث موافق للقياس على إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه, فكذلك الصيام. وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل.
وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم.
634 - وَعنهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من ذرعه الْقَيْء فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة [وَمن استقاء فَعَلَيهِ الْقَضَاء] " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد قَالَ: (سَمِعت أَحْمد يَقُول: لَيْسَ من ذَا شَيْء) ! ! ! وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَهَذَا لَفظه، وَالتِّرْمِذِيّ (وَقَالَ: (حَدِيث حسن غَرِيب، وَقَالَ قَالَ مُحَمَّد - يَعْنِي البُخَارِيّ - لَا أرَاهُ مَحْفُوظًا) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِي رُوَاته: (كلهم ثِقَات) . وَالْحَاكِم وَقَالَ: (صَحِيح عَلَى شَرطهمَا) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا مَوْقُوفا) ، وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ فِي الْقَيْء: " لَا يفْطر ".
وهذا الحديث اختلف في درجته فمنهم من ذهب إلى تصحيحه ومنهم من أعله، وقال النووي رحمه الله: هو حسن بمجموع طرقه وشواهده. ولكن إذا نظرنا إلى القرائن فإن هذا الحديث قد أعله الإمام أحمد رحمه الله , وقال إنما حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ليس هذا الحديث وإنما حديث من أكل ناسيا فإنما أطعمه الله وسقاه وقال ليس هذا من حديث عيسى بن يونس وليس هو في كتابه وليس في حديثه , حدث به عيسي وأن هذا غلط. وقد وقفه عطاء و غيره على أبي هريرة وهو أيضا معلول لأنه روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال إذا قاء فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج ، قال : ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح.
ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح فهذا معناها أنه لم يثبت عن أبي هريرة وإلا لقال به.
وقد ذهب الجمهور إلى ما دل عليه من التفرقة بين من سبقه القيء فلا يفطر ، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء و لم يتعمده إلا في رواية عن الحسن, وجاء مثلها عن ربيعة أيضا .
و بين من تعمده فيفطر ونقل ابن المنذر أيضا الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء, وهو قول الجمهور لكن فيه خلاف فقد قال طاووس وبعض المالكية أنه لا يفطر حتى لو استقاء عمدا لكن يستحب له القضاء حينئذ ، ولعل البخاري يرى ذلك, كما يدل عليه تبويبه وسياقه أثر أبي هريرة والله تعالى أعلم.
-635 وَعنهُ جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:
" أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج عَام الْفَتْح
إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى بلغ كُراع الغميم فصَام النَّاس، ثمَّ
دَعَا بقدح من مَاء فرفعه حَتَّى نظر النَّاس إِلَيْهِ، ثمَّ شرب، فَقيل لَهُ بعد
ذَلِك: إِن بعض النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم الصّيام وَإِنَّمَا ينظرُونَ فِيمَا
فعلت؟ ؟ . فَدَعَا بقدح من مَاء بعد الْعَصْر " رَوَاهُ مُسلم.
636 - وَرَوَى أَيْضا عَن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله أجد بِي قُوَّة عَلَى الصّيام فِي السّفر فَهَل عليّ جنَاح؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هِيَ رخصَة من الله تَعَالَى فَمن أَخذ بهَا فَحسن، وَمن أحب أَن يَصُوم فَلَا جنَاح عَلَيْهِ ".
و عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: (( أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج عَام الْفَتْح إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى بلغ كُراع الغميم ))
((كراع الغميم)) هذا موضع في الطريق بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عسفان يبعد حوالي ٦٠ كيلومتر عن مكة المكرمة،
وقوله ((أولئك العصاة)) أي: من قام بالصوم بعد أن أمر بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه أو لشفقته عليه أو للاستعداد للغزو أو للاستعداد للفتح، وإنما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإفطار حتى رفع قدح ماء بحيث يراه الناس لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله، فمن أبى فقد بالغ في العصيان، وهذا بالنسبة للصوم في السفر إذا تضرر به الصائم.
والمسافر سفر قصر يجوز له الصوم ويجوز له الفطر ما كان يطيقه بلا ضرر، وقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صومه أصلا في السفر فإن صامه لم ينعقد لظاهر الآية { فَمَنْ كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة : 184]، ولحديث (( أولئك العصاة ))، وأما الجمهور فقالوا يجوز صومه في السفر وينعقد ولكن اختلفوا هل الصوم أفضل أم الفطر أفضل، فقال الجمهور: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ولا ضرر، فإن تضرر فالفطر أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ولأنه يحصل براءة الذمة في الحال، وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل واحتج بالحديث الأخير – الحديث الثاني – وهو (( هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))، فظاهره ترجيح الفطر، وأجاب الجمهور أنه فيمن يجد مشقة أو يخاف ضررا، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (( كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن))، وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث في ذلك.
637 - وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " رُخص للشَّيْخ الْكَبِير أَن يفْطر وَيطْعم عَن كل يَوْم مِسْكينا وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَقَالَ: ((هَذَا إِسْنَاد صَحِيح) وَالْحَاكِم وَقَالَ: (صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ)) .
حديث ابن عباس (( رخص للشيخ الكبير....)) وأيضا رواه ابن الجارود في المنتقى والبيهقي في السنن الكبرى. وقد جاء أصله في صحيح البخاري .
هذا الحديث أو الأثر فيه أن المريض الذي لا يقدر على الصوم فإنه يطعم ولا قضاء عليه.
وعند مالك أن الإطعام بالنسبة للكبير منسوخ فهو مستحب وليس واجبا.
والمراد بالكبير أي: العاجز, فيطعم عن كل يوم مسكينا مدا من بر. وعند بعض أهل العلم مدين ( نصف صاع). أي: أنهما ( الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة ) يصومان لكن مع شدة وتعب ومشقة عظيمة وهذا فيمن يئس من القضاء.
وكذلك من يشق عليه الصيام وإن كان صغيرا في السن كالمريض الميؤوس من برئه فهذا ملحق بالشيخ الكبير لأنه لن يتمكن من القضاء ما دام مرضه ملازما له.
وهذا الحديث يحتمل أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو المتبادر من قوله : رُخِّص. ويحتمل أنه استنبطه من قوله تعالى (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) أومن قوله تعالى (( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين )) . فقد كان (الراوي) يرى أنه ليس منسوخا وأنه كان في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
والجمهوز ذهبوا إلى أنها منسوخة, بحيث كان في أول الأمر من شاء أفطر وأطعم ومن شاء صام, ثم نسخ ذلك.
ويخيّر الكبير العاجز عن الصيام ومن في حكمه بين أن يفرق المد حَبًّا على المساكين وهوأكثرمن خمسمائة غرام من البر أو الحنطة أو أن يصنع طعاما ويدعوا إليه من المساكين بقدر أيامه التي أفطرها. وقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة ثريد ودعا ثلاثين مسكينا فأشبعهم.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: قرأ (( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين )) قال: ليست بمنسوخة, والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
وأما المريض الذي يرجى برؤه فلا فدية عليه, فإذا قدر على الصوم لزمه وجوبا لقوله تعالى: (( فعدة من أيام أخر )).
638 - وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: هلكتُ يَا رَسُول الله! قَالَ: وَمَا أهْلكك؟ قَالَ: وَقعت عَلَى امْرَأَتي وَأَنا صَائِم فِي رَمَضَان، قَالَ: هَل تَجِد مَا تعْتق رَقَبَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَجِد مَا تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا، ثمَّ جلس فَأَتَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعرق فِيهِ تمر فَقَالَ: تصدق بِهَذَا، فَقَالَ: عَلَى أفقر منا؟ ! فَمَا بَين لابتيها [أهل] بَيت أفقر إِلَيْهِ منا! فَضَحِك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى بَدَت أنيابه، ثمَّ قَالَ: اذْهَبْ فأطعمه أهلك ". مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم. وَقد رُوِيَ الْأَمر بِالْقضَاءِ من غير وَجه، وَهُوَ مُخْتَلف فِي صِحَّته.
هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وهو حديث كثير الفوائد وأفرده بعض أهل العلم بمصنف مستقل. في آخره وقد روي الأمر بالقضاء من غير وجه وهو مختلف في صحته، هذه الزيادة التي هي "يقضي يوما مكانه" أخرجه أبو داود من طريق هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأعلها ابن حزم بهشام.
وقد روى هذا الحديث أصحاب الزهري الثقات كيونس وعقيل ومالك وغيرهم فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة. وقد جاءت من أوجه أخرى مرسلة، ومنها سعيد بن المسيب عند مالك، وفيه "كُلْهُ وصُمْ يوم ما كان أصابت…".
قوله في الحديث (هلكت…) أي وقعت في الإثم الذي أهلكني.
وقوله صلى الله عليه وسلم (( هل تجد ما تعتق رقبة؟ )) قال: لا، قال: (( هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ )).....الخ…….ثم قال: ((فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر….)) العرق : زنبيل، القُفَّة وهو يسع ١٥ صاعا، وذلك ٦٠ مدا، لكل مسكين مدا، لأن كل صاع فيه ٤ أمداد، فيكون فيه ٦٠ مدا، لكل مسكين مدا.
قوله (على أفقر منا؟) أي، أأتصدّق به على أفقر منا؟
(فما بين لابتيها) أي ما وسط لابتي المدينة أي وهما حرتها الشرقية، الشرقية البقيع حرة الواقم، والغربية غربية سلع وهي حرة الوبرة، والحرة أرض تعلوها حجارة سود.
(فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت) أي ظهرت (أنيابه) أي أسنانه التي خلف الرباعية.
قيل إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فدائها مهما أمكنه فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة فقد جاء هالكا وعاد مالكا كما قال الشيخ القلاش رحمه الله . وقيل ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأتيه وتلطفه في الخطاب وحسن توسله في توصله إلى مقصوده.
قال (اذهب فأطعمه أهلك) أمر لإباحة.
هذا الحديث أقرّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن جماع الصائم في نهار رمضان مهلك لعظم إثمه، فمن وجب في نهار وجب عليه أشد الكفارات، وهي على الترتيب: عتق رقبة، والجمهور على أنها يشترط أن تكون مؤمنة حملا للمطلق هنا على المقيد، في كفّارة القتل، ثم من لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يتخللهما فطر إلا لعذر، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، هذا قول الجمهور، خلافا لمالك رحمه الله، فإنه ذهب إلى التخيير في هذه الأمور الثلاثة.
وهذا الحديث يدل على جواز الأكل من طعام الكفارة لمن وجبت عليه إذا كان معصرا، ويجوز أن يتصدق به على أهله، وهذا بناء على أن الذي أخذه كان كفارة وليس صدقة، وهذا إذا كان الإنسان أعطيها كما في هذا الحديث، أم لو كان هو الذي دفعها فليس له أن يأكل منها، بل يدفعها إلى مستحقها.
وذهب الجمهور إلى أن ما أخذه لم يكن كفارة، وإنما هو صدقة والكفارة لا تسقط بالإعسار بل يبقى دينا في ذمته.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى في المشهور عنه، أن الكفارة تسقط مع العجز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رص لهذا الرجل أن يطعم التمر أهله ولم يبين له بقاء الكفارة في ذمته.
وفي الحديث دليل على أن من وقع في أمر محرم، فعليه أن يسأل أهل العلم عن حكمه. وقوله (هلكت) يدل على أنه كان عامدا عالما بالتحريم، فمن جامع ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه كما روى البخاري معلقا كما نقل البخاري عن حسن ومجاهد.
وذهب جمع من العلماء إلى أن الناسي كالعامد في ذلك.
وهل على المرأة كفارة أيضا؟؟
ذهب الجمهور على أن عليها الكفارة إن كانت مطاوعة.
وذهب الإمام الشافعي والظاهرية إلى أنه لا كفارة عليها ورجحه ومال إليه ابن قدامة، الله أعلم.
فإن كانت مكرهة فلا كفارة عليها وتلزم زوجها، ويجب قضاء اليوم الذي حصل فيه الجماع بدل اليوم الذي أفسده، فالكفارة لا تسقط القضاء لأنها عقاب على الذنب، هذا مذهب جماهير أهل العلم.
وذهب الإمام ابن حزم والإمام ابن تيمية إلى أنه لا قضاء عليه وأن ذنبه أغلب وأشد.
وقال إن رواية (( فصم يوم مكانه )) شاذة كما سبق ولا شك أن القضاء أحوط، والله أعلم.
639 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَقد تكلم فِيهِ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل.
حديث عائشة: (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )) أي: من مات من المكلفين وعليه صيام ( يجب عليه صيام لم يؤده).
(( صام عنه وليه )) : خبر بمعنى الأمر, أي: فليصم عنه وليه.
والجمهور ذهبوا إلى أن هذا الأمر ليس للوجوب, بل ادعى إمام الحرمين على ذلك,وإنما خالف بعض أهل الظاهر ولعله لم يعتد بخلافهم.
وقد أجاز الإمام الشافعي في القديم الصيام عن الميت وهو اختيار جمع من محدثي الشافعية.
وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة : لا يصام عن الميت.
وقال أحمد: يصام عنه النذر فقط حملا للعموم في حديث عائشة هذا على المقيد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما, وقد رواه البخاري عقب هذا الحديث الأول حديث ابن عباس رضي الله عنهما: إن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأقضيه عنها ؟ قال (( نعم, فدين الله أحق أن يقضى )).
وقد دل هذا الحديث على أن أي ميت مات وفي ذمته صيام واجب أنه ينبغي لوليه أو لقريبه -والوارث أولى القرابة- أن يصوم عنه برا به وإحسانا إليه, وهذا مختص بمن كان معذورا بمرض أو سفر ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات. وأما من مات قبل إمكان الصيام كأن يشتد به المرض أو السفر ولم يجد وقتا للقضاء فلا شيء عليه ولا على وليه.
ولا يختص قضاء ذلك بوليه, بل من صام عنه قضى ذلك عنه وأجزأ لأنه تبرع, وذكر الولي جاء في الحديث مخرج الغالب لأن الغالب وقوعه من الولي.
والقول بأنه يجزئ صوم الولي عن الميت هو جماعة من فقهاء الشافعية وعليه عامة أصحاب الحديث.
وذهب الجمهور منهم الشافعي في الجديد إلى أنه لا يصام عن الميت وإنما يطعم عنه كل صيام واجب. وذهب أهل الظاهر إلى أنه أمر للوجوب. والجمهور إلى أنه للاستحباب.
والذين ذهبوا إلى أنه يصام عن الميت اختلفوا:
فذهب من قال به من الشافعية إلى أنه يصام عنه كل صيام واجب.
وذهب الحنابلة إلى أنه لا يصام عنه إلا النذر وأما ماعداه فيطعم عنه, لحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما سبق فيحمل المطلق وهو حديث عائشة على المقيد وهو حديث ابن عباس.
وأما الذين قالوا بالعموم قالوا حديث عائشة رضي الله عنها فيه قاعدة كلية (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )). وأما حديث ابن عباس فذكر فردا من أفراد هذه القاعدة فلا تعارض بينهما, بل في حديث ابن عباس ما يدل على دخوله في عموم حديث عائشة وهي التعليل (( فدين الله أحق أن يقضى )). وأيضا قالوا: كيف يحمل حديث عائشة على صوم النذر فقط وتمنع دلالته على ما هو أكثر وقوعا. والله أعلم.
باب في قيام شهر رمضان
640 - عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتساباً غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه " مُتَّفق عَلَيْهِ
هذا الحديث متفق عليه، أخرجه الشيخان. وقد ورد أيضا: (( من صام رمضان إيمانا واحتسابا )) عندهما. وجاء أيضا في مسلم: (( من يقم ليلة القدر فيوافقها أراه إيمانا واحتسابا غفر له )).
: أي تصديقا بأنه حق وطاعة.
وقوله: (( احتسابا )) أي طلبا لمرضاة الله تعالى وثوابه لا بقصد رؤية الناس وما غير ذلك مما يخالف الإخلاص. و"الاحتساب" هو من الحسب وهو العد، كالاعتداد ؛ من العد. وقيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يعتد بعمله.
والمراد بقيام رمضان: ولو قيام يسير من الليل. ويقع ذلك بصلاة التراويح وراء الإمام كالمعتاد، ومطلق التهجد.
بل يقع أيضا بصلاة العشاء والصبح في جماعة لحديث عثمان رضي الله عنه في مسلم: (( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله )).
قوله: (( ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله )) أي مع كونه صلى العشاء، يعني صلى الفجر مع صلاة العشاء فكأنما صلى الليل كله. وليس المقصود قيام جميع ليله وإن كان الإكثار من العمل الصالح خيرا، لكن يقع قيام رمضان بأقل من ذلك.
بل جاء في حديث أبي أمامة عند الطبراني: (( من صلى العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر )) وفي إسناده ضعف.
وقد ذكره مالك رحمه الله في الموطأ بلاغا عن سعيد بن المسيب رحمه الله: (( من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها )). قال ابن عبد البر رحمه الله: "مثل هذا لا يكون رأيا ولا يؤخذ إلا توقيفا، ومراسيل سعيد بن المسيب أصح المراسيل". وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها".
بل جاء في معجم الطبراني الأوسط بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا: (( من صلى العشاء في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كأجر ليلة القدر )).
قال الإمام النووي رحمه الله: "المراد بقيام رمضان صلاة التراويح". واتفق العلماء في استحبابها واختلفوا هل الأفضل أن يصليها جماعة في المسجد كما هو قول الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، أم الأفضل أن يصليها منفردا في بيته كما هو قول الإمام مالك، والإمام أبي يوسف، وبعض الشافعية، وغيرهم.
وهذا الخلاف فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل، ولا تختل الجماعة بتخلفه. فإن فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة ؛ فالجماعة أفضل اتفاقا يعني:
1. أن يكون حافظا للقرآن ٢. أن لا يخاف الكسل إذا انفرد في البيت ٣. أن لا تختل جماعة المسجد إذا تخلف عنها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( غفر له ما تقدم من ذنبه )) ذهب ابن المنذر إلى ظاهره وهو أنه يتناول الصغائر والكبائر. وقال النووي رحمه الله: "المعروف عند الفقهاء أنه مختص بغفران الصغائر". (وقال بعضهم): "ويجوز (والله أعلم) أن يخفف عن الكبائر إذا لم يصادف شيئا من الصغائر". وقال إمام الحرمين: "كل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب فهو عندي محمول على الصغائر". أيده النووي رحمه الله بأحاديث منها: (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر )). وهذا مذهب أهل السنة كما قال القاضي عياض: "وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى".
وفي حديث أبي هريرة في صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر زيادة "وما تأخر" ، ولعل الأقرب فيها أنها شاذة فقد رواه أبو سلمة عن أبي هريرة من طرق كثيرة عنه وزيادة "وما تأخر " عند أحمد من طريق محمد بن عمرو عنه ، وكذا في مسند أحمد رحمه الله من حديث عبادة رضي الله عنه في ليلة القدر: (( من قامها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر )). وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وحديثهما حسن لكن ليسا ممن يحتمل تفرده بالزيادة على الثقات ، والله أعلم .
وليس فيها إشكال لو صحت بل هي مثل (( صوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده )). فتكفير السنة التي بعده كمغفرة المتأخر من الذنوب. فاختلف العلماء في ذلك فقيل: "إذا ارتكب معصية جعل الله ما سبق من هذا العمل الصالح وهو قيام ليلة القدر وصوم يوم عرفة كفارة، وقيل: معناه أن الله يعصمه فيما بعد عن ارتكاب الذنب. والله أعلم.
وجاء هذا الفضل في هذا الحديث في قيام رمضان ، وجاء أيضا نفسه في رواية أخرى في قيام ليلة القدر. فقد يقال أحدهما يغني على الأخر، الجواب أن قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران وإن لم يقم غيرها، أو أنه صلى الله عليه وسلم ذكر للغفران طريقين: طريق يقيني ولكنه طويل وشاق؛ وهو قيام شهر رمضان كاملا، وطريق ثان ظني تخليلي ليس يقينيا ولكنه مختصر وقصير وهو قيام ليلة القدر خاصة.
640 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه " متفق عليه، واللفظ للبخاري، ولأبي داود: " غير رمضان ".
وهو صريح في تحريم ذلك وبه صرح الشافعية وحكاه النووي في الروضة وشرح مسلم عن أصحابنا وحكاه في شرح المهذب عن جمهور أصحابنا ثم قال: وقال بعض أصحابنا يكره والصحيح الأول، قال فلو صامت بغير إذن زوجها صح باتفاق أصحابنا وإن كان الصوم حراما؛ لأن تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم فهو كالصلاة في دار مغصوبة، وقال صاحب البيان قبوله إلى الله تعالى قال النووي ومقتضى المذهب في نظائرها الجزم بعدم الثواب كما في الصلاة في دار مغصوبة انتهى.
ومن قال بالكراهة احتاج إلى تأويل قوله «لا يحل» على أن معناه ليس حلالا مستوي الطرفين بل هو راجح الترك مكروه وهو تأويل بعيد مستنكر ولو لم يرد هذا اللفظ فلفظ النهي الذي في صحيح مسلم ظاهر في التحريم، وكذا لفظ المصنف؛ لأن استعمال لفظ الخبر يدل على تأكيد النهي وتأكده يكون بحمله على التحريم والله أعلم.
قال النووي في شرح مسلم وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام وحقه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي
شاهد أي حاضر مقيم في البلد وفي معنى غيبته أن يكون مريضا لا يمكنه الاستمتاع بزوجته فلها حينئذ الصوم من غير إذنه ، والظاهر أن احتفاف القرائن واطراد العادة يقوم مقام الإذن الصريح.
ولا يحتاج في صوم رمضان إلى إذنه ولا يمتنع بمنعه وفي معنى صوم رمضان كل صوم واجب مضيق كقضاء رمضان إذا تعدت بالإفطار أو كان الفطر بعذر ولكن ضاق وقت القضاء بأن لم يبق من شعبان إلا قدر القضاء أو نذرت قبل النكاح أو بعده بإذنه صيام أيام بعينها
باب الاعتكاف
656 حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه
هذا الحديث فيه الاعتكاف، والاعتكاف في اللغة : اللزوم والمكث، وفي الشرع : المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة لملازمة المسجد، قال الله تعالى : (( وأنتم عاكفون في المساجد ))، فالاعتكاف لزوم المرء شيئا وحبس نفسه عليه برا كان أو إثما في اللغة.
وهذا الحديث فيه استحباب الاعتكاف وهو أمر مجمع عليه، وهو متأكد في العشر الأواخر من رمضان بسبب طلب ليلة القدر، فإنها عند جمع كما سبق منحصرة في العشر الأواخر، وعند جمع آخرين يتأكد كونها في العشر الأواخر من غير انحصار بها، والعشر الأواخر هي الليالي ويعتكف معها الأيام -أي النهار- أيضا، وإنما يقتصر على ذكرها في الكلام على عادة العرب.
فهو يدخل -الذي يريد اعتكاف العشر الأواخر- محل الاعتكاف قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، وذهب بعض العلماء إلى أنه يبدأ من أول النهار، والقول الأول هو قول الأئمة الأربعة، واحتج من قال بأنه يدخل من أول النهار لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه، وأجاب الجمهور بأن معناه دخل المعتكف وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك ابتداء الاعتكاف بل كان ابتداء اعتكافه من قبل المغرب معتكفا لابثا في المسجد، فلما صلى الصبح انفرد.
وهذا الحديث وغيره فيه جواز ذكر رمضان من غير ذكر "شهر"، وهذا قول البخاري ونقله النووي عن محققيه ولا كراهة في ذلك، وحكي عن المالكية أنه لا يقال "رمضان" على انفراده بل يقال "شهر رمضان"، وتعلقوا في ذلك بأن رمضان اسم من أسماء الله فلا يطلق على غيره إلا بقيد، وقال بعض العلماء أنه إذا وجد قرينة تصرف إلى شهر فلا كراهة وإلا فيكره، والأول هو الصواب، لأن الكراهة إنما تثبت بنهي شرعي، وأما كونه اسما من أسماء الله فليس بصحيح، لم يصح فيه شيء، وأسماء الله توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح.
وهذا الحديث يدل على استمرار حكم الاعتكاف وأنه لم ينسخ، وحكي عن مالك رحمه الله أنه قال : لم يبلغني أن أحدا من السلف على أنه أدركته اعتكف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن، وذلك لشدته، فلا ينبغي لمن لا يقدر أن يفي بشروطه أن يعتكف.
وقولها رضي الله عنها : (ثم اعتكف أزواجه من بعده) يدل على استمرار هذا الحكم وأنه لم ينسخ، وأنه مستمر حتى في حق النساء، وإن أُنكر عليهن -يعني أنكر عليهن النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في حياته- فإن ذلك كان لمعنى آخر وهو الخوف أن يكنّ غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القربة منه صلى الله عليه وسلم لغيرتهن عليه، أو كره ذلك لذهاب المقصود لكونهن معه في المعتكف، أو لتضييق المسجد بأبنيتهن، والله أعلم.
فيه الاستحباب على الخير الذي يعتاده الإنسان وأن لا يقطعه، وقد ترك صلى الله عليه وسلم الاعتكاف سنة لهذا الأمر، حين اعتكفت نساؤه معه صلى الله عليه وسلم، فقال : (آلبر يردن) فأمر بخبائه فقُوِّض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شعبان (شوال)، أي : في ذلك العام.
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين، يحتمل أنها العشر التي ترك من أجل أزواجه، فإنه في ذلك العام اعتكف عشرا من شوال ثم قضى في العام الذي بعده فاعتكف عشرين يوما من رمضان لكي يكون اعتكافه في رمضان، ويحتمل أنه سافر يوما فلم يعتكف فقضى وهذا أقرب، لأنه جاء منصوصا عليه عند ابن ماجه وابن حبان، ويحتمل أن سبب اعتكافه في العام الذي قبض فيه عشرين المبالغة في التقرب لاستشعاره قرب وفاته، كما كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين.
وفي هذا الحديث -بهذه الزيادة- جواز اعتكاف النساء، والحديث الذي فيه كراهته صلى الله عليه وسلم اعتكاف أمهات المؤمنين دل على كراهة الاعتكاف للنساء، فذهب بعض العلماء إلى ذلك، فقالوا: يكره اعتكاف المرأة إلا في مسجد بيتها، فإنها إذا صارت إلى ملازمة المسجد معه ليلا ونهارا كثر من يراها ومن تراه، جاء ذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله وعن غيره، ويستحب الحنفية أن تعتكف المرأة في مسجد بيتها، ولم يروا الاعتكاف في المسجد للنساء، ومسجد البيت هو الموضع المهيأ للصلاة فيه، هذا قول الحنفية وهو القول القديم للشافعي -قالوا : لا تعتكف إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد الجماعة- ، وحكي عن أصحاب أبي حنيفة أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها، وجوز بعض المالكية والشافعية للرجل أن يعتكف في مسجد بيته، وعبر بعضهم بأنه مجاورة وليس اعتكافا، واختلف الجمهور المشترط للمسجد العام، فقال بعضهم : يصح الاعتكاف في كل المسجد بل حتى في سطحه ورهبته، وقال آخرون : بل لا بد أن يكون مسجدا جامعا تقام فيه الجمعة، وهذا رواية عن مالك، والقول الأول هو قول الجمهور، وجاء عن حذيفة بن اليمان وعطاء بن أبي رباح تقييد ذلك بأن يكون المسجد هو المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى.
وهناك مسألة أخرى تابعة لباب الصوم والاعتكاف، وهي : هل يشترط في صحة الاعتكاف الصوم؟
فذهب مالك، وأبو حنيفة إلى أنه يشترط لصحة الاعتكاف الصوم، وذهب الشافعية، والحنابلة إلى أنه لا يشترط الصوم وإنما الاعتكاف يكون في رمضان لأجل تحري ليلة القدر ولأجل الصلاة، وأما لو اعتكف في خارج رمضان فإن اعتكافه يكون صحيحا ويكون قائما بسنة الاعتكاف. والله أعلم .
650 - وعنها قالت: " [وإن] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا " رواه البخاري.
وترجيل عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيه خدمة الزوج بالغسل والطبخ والخبز وغيرها ، وليس نصّا على ذلك بل يحتمل أن يكون في الأمر الخفيف فقط ، فلا يكتفى في المسألة بالاستدلال من هذا الحديث بل يرجع إلى الأدلة الأخرى .
باب في ليلة القدر
661 - حديث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: (( أَن رجَالًا من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُروا لَيْلَة الْقدر فِي الْمَنَام فِي السَّبع الْأَوَاخِر، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ! أرَى رؤياكم قد تواطأت فِي السَّبع الْأَوَاخِر! فَمن كَانَ متحريا فليتحرها فِي السَّبع الْأَوَاخِر )) مُتَّفق عَلَيْهِ.
هذا الحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما. لفظ مسلم: رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( َأرَى رؤياكم في العشر الأواخر, فاطلبوها في الوتر منها )). وفي لفظ عنده أيضا :(إن ناسا منكم قد أروا أنها في السبع الأُوَل, وأري ناس منكم أنها في السبع الغوابر, فالتمسوها في العشر الغوابر).
وفي لفظ عند البخاري : (أن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر, وأن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم : التمسوها في السبع الأواخر. وفي مسلم : ( من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر).
هذا الحديث فيه :
- تواطأت : تواطأت أي توافقت. كأن كلا منهم وطئ ما وطئه الآخر.
- فالتمسوها (في بعض الروايات) : أي اطلبوها.
- في السبع الأواخر : أي في الليالي الأخيرة من الشهر.
- والتحري : القصد والاجتهاد في الطلب, والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول, أي فليتعمد طلبها
- وليلة القدْر-بسكون الدال المهملة- ويجوز أيضا القدَر-بفتح الدال المهملة- : سميت بذلك لعظم قدرها لما لها من الفضائل, أي الليلة ذات القدر العظيم, أو لما يحصل لمن يحييها بالعبادة من القدر العظيم. وقيل : لأن الأشياء تُقَدَّر فيها وتُقضَى. والأول أولى لقول الله تعالى : (( ليلة القدر خير من ألف شهر )). والأخير يدل له (( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر )) وقوله تعالى : (( فيها يفرق كل أمر حكيم )). فالاحتمالان واردان مع القدر بسكون الدال. ويجوز فتح الدال (قدَر) لأنها إن سميت بذلك لعظم قدرها, فقد جاء الفتح في ذلك أيضا. وإن كانت من التقدير, فالقدَر هو ما يقدره الله من القضاء. فقال ابن العربي : هي ليلة القَدْرِ، والقَدَرُ فأمَّا الأوَّل: أي الشّرف، لفلان قدر في النّاس، يعني شرف ومزية.
وأما الثّاني: وهو القَدَرُ فهو التَّقدير، لقول الله
تعالى: (( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )) . فيُلْقِي اللهُ فيها
لملائكته ديوان العام.
فالقدَر الأقرب فيه التقدير, ولكن مع هذا
يجوز, حتى لو قلنا ليلة القدْر- بالسكون- أنه يراد به التقدير. وجوز المفسرون في
الآية -مع أنها لم تُقرأ إلا بالإسكان- المعنيين, يعني إرادة الشرف وإرادة
التقدير.
وصحح جمع كالنووي في شرح المهذب أنها بالمعنى الثاني أي ليلة الحكم والفصل, أي ليلة التقدير.
وهذا الحديث فيه فضل هذه الليلة العظيمة وذلك واضح من اسمها, ومن الأمر بتحريها. وقد بين القرآن فضلها بقوله تعالى : (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )). وخص الله بها هذه الأمة فلم تكن لمن قبلهم على المشهور. وذلك لأن الله تعالى عوّض هذه الأمة عن طول أعمار الأمم التي قبلها. وفضل ليلة القدر أمر مجمع عليه.
ثم إنه لا يتوقف حصول المغفرة لقيام ليلة القدر على معرفتها، بل لو قامها غير عارف بها غفر له ما تقدم من ذنبه لكن بشرط أن يكون إنما قام بقصد ابتغائها.
وأما ما وقع في حديث عبادة رضي الله عنه عند أحمد: (( ثم وفقت له )). ففيه شرط آخر وهو الموافقة أن يوفق لها أي: "أن يعلم أنها ليلة القدر". هكذا قال النووي رحمه الله. قال ابن العراقي رحمه الله: "بل معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قامها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك". ورد على قول النووي أن معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر. والله أعلم".
وفي هذا الحديث بقاء ليلة القدر واستمرارها وأنها لم تُرفع, وهذا هو القول المعتمد. وذهب بعضهم إلى أنها رُفعت لأنه جاء في الحديث : (( حين تلاحى الرجلان, فرُفعت )). ولكن معنى ذلك الحديث, الرفع فيه رفع بيان علم عينها, وإلا لما أمر في آخره بالتماسها.
وفي الحديث الأمر بطلبها في السبع الأواخر -وفي رواية- في أوتار العشر الآواخر. والجمع بينها أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان, في وتر من لياليها.
وقد اختلف العلماء اختلافا كثيرا في تعيين ليلة القدر. فمن ذلك
- ما جاء عن ابن مسعود والحنفية : أنها في السنة كلها. وجاء عنه رضي الله عنه أيضا تعيين أنها ليلة سبع وعشرين.
- وجاء أيضا عن ابن عمر وجماعة أنها في شهر رمضان كله, فتُلتمس في جميع الشهر. وآكده العشر الأواخر, وآكدها ليالي الوتر منها
- أيضا هناك قول ثالث أنها العشر الأواخر وهو قول الجمهور
- وقول رابع أنها تختص بأوتار العشر الأواخر
- وقول آخر أنها ليلة إحدى وعشرين, وهو قول كثير من الصحابة.
- أو أنها ليلة سبع وعشرين وهو أيضا قول كثير من الصحابة, وهو قول كثير من أهل العلم
- وذهب بعضهم إلى غير ذلك فقيل أول ليلة, وقيل آخر ليلة من رمضان, وقيل ليلة سبع عشرة, وقيل غير ذلك.
- وهذه كله تفريعات وأقوال بناء على أنها تلزم ليلة بعينها. وهو مذهب الشافعي ومن وافقه. وأنها تختص بليلة واحدة وتبقى فيها.
- وهي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين
- وذهب جماعة من العلماء إلى أنها تنتقل, فتكون في ليلة ذات سنة, في سنة من السنوات, وفي ليلة أخرى في سنة من السنوات الأخرى. وهذا قول مالك، وأحمد رحمة الله عليهما, وهو أيضا قول المزني من الشافعية واختاره النووي جمعا بين الأحاديث المختلفة في هذا الباب. فيكون الحديث الذي عندنا الآن, فالأمر بالتحدي في السبع الأواخر, أي في ذلك العام. لأنه جاء في حديث آخر : في العشر الأواخر.
- وعلى هذا القول وهو التنقل, فهي تتنقل في العشر الأواخر, عند الشافعية, عند من قال بانتقالها منهم وهو قول المزني كما سبق واختيار النووي.
- أو تتنقل في جميع الشهر وهو قول الحنابلة. وإن كانت آكد في العشر الأواخر, في ليالي الوتر منه آكد.
وعلى كل حال, فيتلخص مما سبق أنها غير معينة وأن الله أخفاها لكي يجتهد العبد ولا يتكل على يوم معين.
- ولأجل هذا ذهب بعض العلماء إلى الكف عن تحديدها والخوض في ذلك, فلا يُدرى في أية ليلة هي بالضبط, وإن كان في الغالب أنها تكون في العشر الأواخر, وأول هذه العشر الأواخر ليلة عشرين إن كان الشهر تسعا وعشرين, وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين. فقد تكون ليلة إحدى وعشرين.. وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين… هذا قول ابن حزم رحمه الله. وبناء على هذا يزداد خفاءها لأن الإنسان لا يدري هل يكون الشهر تسعا وعشرين أو ثلاثين من أوله.
وفي قوله : أرى رؤياكم تواطأت : بيان أهمية الرؤيا وعظمها والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية.
لكن لا ينبني على ذلك حكم بحيث لو خالفت دليلا فلا يعمل بها حتى لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بأمر, وكان ذلك مخالفا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام في اليقظة, فإنه يجب العمل بما ثبت في اليقظة. لأننا وإن قلنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون رآه على المنقول من صفته في الشمائل, فحينئذ تكون رؤياه حق, لكن يكون هذا من قبيل تعارض الدليلين, فيجب العمل بالأرجح. وما ثبت في اليقظة هو أرجح.
وأما هنا فقد استُنِد إلى الرؤيا في أمر ثابت استحبابه مطلقا وهو طلب ليلة القدر. ولم يكن للرؤيا إلا الترجيح بسبب هذه المرائي التي تدل كونها في السبع الأواخر, وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي. وليس منافيا للقاعدة الكلية الثابتة وهي استحباب طلب ليلة القدر. هكذا قرر هذه المسألة الإمام ابن دقيق العيد في شرح العمدة.
وبناء على تفريعنا على هذه المسألة ذكروا أنه إذا رأى شخص النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وقال له : يوم الغد هو رمضان, هل يعملون به أم لا؟ حكى القاضي عياض الإجماع على أنه لا يعملون به. والله تعالى أعلم .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم.
شرح المحرر حديث ٤
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا رب العالمين.
أما بعد فإن هذه مسودة لتكون عونا لي على إلقاء الدرس ولمن أراد الاستفادة منها وقد تم إعدادها مبدئيا على قدر ما وسع له الوقت وتيسر.
وسيتم مستقبلا تحريرها وإكمالها إن شاء الله تعالى بمراجعة ترقيم الأحاديث وتكميل الشرح لعدد من الأحاديث التي لم أستطع الآن إثبات شرحها ، وبالله التوفيق .
خالد مرغوب 4 رجب 1440
أولا : باب صلاة الكسوف (و فيه خمسة أحاديث)
هذا الباب وما بعده، وصلاة العيدين قبلهما، وأيضا صلاة الجنائز بعد ذلك، هذه أنواع من الصلوات؛ تفعل في بعض الحالات ولا يتكرر في كل يوم وفي كل أسبوع مثل صلاة الجمعة، وذلك من حسن مقاصد الشرعية وأحكامها حيث ترتبط النفوس بعبادة الله سبحانه وتعالى على اختلاف الأحوال ويكون للإنسان مذكرات تذكره بالله سبحانه وتعالى وباليوم الآخر في أحوال مختلفة.
والكسوف؛ أي كسوف الشمس والقمر : وهو ذهاب ضوءهما أو بعض ضوءهما، وإذا جمعا فالأولى أن يقال الكسوف للشمس والخسوف للقمر.
وصلاة الكسوف والخسوف هي من السنن المؤكدة عند الجمهور بل قال بعضهم إنها آكد السنن. وذهب بعضهم إلى وجوبها؛ وهذا قول بعض الحنفية، ووجه عند الحنابلة وقواه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.
وصلاة الخسوف تؤدى جماعة أو فرادى، وكونها جماعة أفضل، وكذلك الاستسقاء.
الحديث الأول
٤٩٢- . عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فَقَالَ النَّاس: انكسفت الشَّمْس لمَوْت إِبْرَاهِيم، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رأيتموهما فَادعوا الله وصلوا حَتَّى ينْكَشف مَا بكم " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَعند البُخَارِيّ: " وصلوا حَتَّى ينجلي "، وَلَيْسَ عِنْد مُسلم: " انكسفت الشَّمْس لمَوْت إِبْرَاهِيم "
شرح الحديث :
إبراهيم هو ابن النبي عليه الصلاة والسلام من مارية القبطية رضي الله عنها، وهو آخر أولاده عليه الصلاة والسلام، وأما خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد رزق منها القاسم وبه كان يكنى، وعبد الله وهو الطيب الطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهم جميعا
عاش إبراهيم ثمانية عشر شهرا، وتوفي في السنة العاشرة، قيل في ربيع الأول، وقيل في رمضان، وقيل في الحج، ورجح بعض المتأخرين أن ذلك كان في شوال، واختلف في تحديد اليوم والأشهر تبعا للواقدي أنه في العاشر من ذي الحجة، ولكن لم يسنده الواقدي بل أرسله، ولو أسنده لم يكن حجة، لضعفه الشديد في الحديث مع كونه إماما في المغازي وسعة علمه، وأيضا قوله أنه في العاشر، هذا مما يستغرب وذلك لأن العادة في الكسوف أن يكون في آخر الشهر.
وتحقيق شيخنا المباركفوري في شرح بلوغ المرام ص ١٤١ بناء على علم الفلك ان الكسوف كان الساعة ثمانية ونصف صباحا يوم ٢٩ من شوال سنة عشر والله اعلم .
قوله "فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم" كان هذا عادة عندهم يعتقدونها أن الكسوف يحدث لموت أحد من العظماء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" علامتان على قدرة الله تعالى وعظمته وأنه الرب المتصرف المدبر للأمور، وأنه ليس لأحد من الربوبية شيء، وهو يسلبهما النور وهو قادر على أن يفعل ذلك ويذهب بهذه الغم عليكمدنيا وتعقبها القيامة.
وهذا التذكير بالآخرة وبقدرة الله، ويظهر ذلك في الكسوف لأنه على خلاف العادة، فالإنسان يتبلد حسه بالشيء الذي يعتاده، ولكنه حينما يأتي الشيء خلاف العادة يتأثر به، وبهذا رد النبي عليه الصلاة والسلام على تلك الأفكار الباطلة، وهذا يدلنا على البدء بالعقيدة في الدعوة، وعلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يبال بمدحهم أو بتعظيمهم له وتفسيرهم للكسوف بأنه بسبب وفاة ابنه، بل رد ذلك، وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يفتري كذبا أو أن يفعل شيئا مبتدعا بدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه، بل النبي غني ، عليه الصلاة والسلام بما آتاه الله من الفضائل الثابتة الصحيحة.
"لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما" إذن الرؤية وما يقوم مقامها من إخبار الثقة هي علة صلاة الكسوف، لا أن يعرف أنه حدث كسوف لكنه يسير جدا بنسبة ضئيلة واحد في المائة مثلا؛ ففي هذه الحالة الأقرب أنه لا تصلى.
"فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف ما بكم" هذا دليل على أن صلاة الكسوف تطوّل بمقدار الكسوف، فلو انجلت الشمس في أثناء الصلاة تخفف الصلاة، ولو طال الكسوف وانتهينا من الصلاة لا نعيد الصلاة ولا نكررها ولكن نستمر في الدعاء.
ما يستفاد من الحديث :
1. الشمس و القمر آيتان من آيات الله مخلوقاته العظيمة، و ليس لهما من الربوبية شيء، و اللع قادر على أن يسلب منهما ضوءهما.
2. البداءة في الدعوة بالتوحيد.
3. عدم جواز الافتراء و لو لقصد مدح النبي ﷺ، و هو غني بما أعطاه الله تعالى من الفضائل الثابتة الصحيحة.
4. العلة لصلاة الكسوف هي الرؤية أو ما يقوم مقامها من الشهادة. و العبرة بالنقص المشاهد، أما نسبة النقص القليلة و الضئيلة فليس معتبرا.
5. تطويل الصلاة بمقدار الكسوف، و التجوز في الصلاة إذا انجلت الشمس قبل الانتهاء من الصلاة. أما إذا انتهى من الصلاة قبل أن تنكشف، فيظل في دعاء الله و استغفاره حتى تنكشف، و لا يعيد الصلاة.
6. فيه المبادرة بالصلاة ، والذكر ، والتكبير ، والصدقة عند وقوع كسوف وخسوف ونحوهما من زلزلة وظلمة شديدة وريح عاصف ، ونحو ذلك من الأهوال .
7. وفيه الزجر عن كثرة الضحك ، والتحريض على كثرة البكاء .
8. وفيه اهتمام الصحابة رضي الله تعالى عنهم بنقل أفعال النبي ﷺ ليقتدى به فيها. وفيه الأمر بالدعاء، والتضرع في سؤاله.
9. وفيه التحريض على فعل الخيرات، ولا سيما الصدقة التي نفعها متعدٍّ.
10. وفيه عظة الإمام للناس عند الآيات ، وأمرهم بأعمال البر.
الحديث الثاني
٤٩٣- وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته فَصَلى أَربع رَكْعَات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم.
شرح الحديث :
هذا دليل على أن صلاة الكسوف تكون جهرية, وذهب الجمهور إلى أنها صلاة نهارية فتكون سرا وأن صلاة الخسوف هنا -بالخاء- هي المقصود بها الليلية أي : صلاة خسوف القمر.
هل يجهر في صلاة الكسوف (الشمس) بالقراءة؟
القول الأول : لا، إنما يجهر بالقراءة في الخسوف، لا في الكسوف. إليه ذهب الجمهور.
و أجابوا عن حديث عائشة بأنه مروي بلفظ (الخسوف) و ليس الكسوف، و تمسكا بالأصل في الصلاة النهارية، و بقول ابن عباس : " قرأ نحوا من سورة البقرة " لأنه لو جهر لم يحتج إلى تقدير، و حديث سمرة عند ابن خزيمة و الترمذي " لم يسمع له صوتا "
القول الثاني : نعم، يجهر بالقراءة سواء في الخسوف أو في الكسوف. إليه ذهب صاحبا أبي حنيفة وأحمد و إسحاق و اختاره ابن خزيمة و ابن المنذر و ابن العربي، فهو وجه عند المالكية و الشافعية. و هو الراجح لحديث الباب.
و أجابوا عن قول ابن عباس باحتمال أنه رضي الله عنه لم يسمع قراءة النبي ﷺ لكونه في آخر الصف. و أجيب عما رواه الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي ﷺ في الكسوف، باحتمال كونه نسي ما قرأه النبي بالضبط، مع ضعف أسانيده متصلا، حيث وصله البيهقي بـ3 أسانيد واهية.
و هكذا الجواب عما روي عن سمرة، بأن ذلك لا ينفي الجهر بالقراءة.
و على كل حال، فالمثبت له قدر زائد من العلم، فالأخذ به أولى.
القول الثالث : يخير بين الجهر والإسرار، و هو قول الطبري.
والقول بجهر صلاة الكسوف وأنها مثل الجمعة هو قول الإمام أحمد وصاحبي أبي حنيفة -الإمام أبو يوسف والإمام محمد رحمة الله على الجميع- وهو أيضا وجه عند الشافعية ووجه عند المالكية، واختار هذا القول ابن خزيمة وابن المنذر وابن العربي وأما الجمهور فقالوا إنه يسر بصلاة الكسوف ويجهر بصلاة الخسوف.
والقول بالجهر أرجح، وقد ثبتت رواية الأوزاعي وهي كافية وأيضا جاء من طرق متعددة يعضد بعضها بعضا، وجاء التصريح بجهر صلاة خسوف الشمس والقمر.
"فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات " إذن, في كل ركعة ركوع زائد وهو ركوع سنة والأقرب أنه لا تدرك به الركعة، وهذا هو الأصح، وجاءت روايات في مسلم أنه صلى -عليه الصلاة والسلام- في كل ركعة ثلاثة؛ يعني زاد على هذه الركوعات ولكنه شاذ عند الجمهور.
وذهب الحنفية إلى أنها تصلى ركعتين كصلاة الفجر من دون زيادة ركوع، وهذا جائز ولكن الأولى والأرجح أنه تصلى أربع ركوعات؛ أي ركعتين في كل ركعة ركوعان.
إذاً إذا صلى هذه الركعات فكيفية الصلاة كما سيأتي في الحديث الذي بعده.
ما يستفاد من الحديث :
1. الصفة المذكورة في حديث الباب هي الراجح في صفة صلاة الكسوف، و هي بركعتين و أربع ركوعات و أربع سجدات. خلافا للحنفية الذين قالوا بأنها تصلى كهيئة صلاة الفجر، و خلافا للروايات الأخرى الشاذة التي جاءت بأكثر من أربع ركوعات.
2. الأظهر أن الركوع الثاني من كل ركعة هي سنة، فلا تدرك به الركعة.
3. قوله « فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم » استدل به بعضهم على أنه ﷺ كان يحافظ على الوضوء ، فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال. و محافظته على الوضوء هي مقتضى حاله وجلالة قدرهﷺ .
الحديث الثالث
٤٩٤- وَعَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " انخسفت الشَّمْس عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَصَلى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَامَ قيَاما طَويلا، [نَحوا من قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة] ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا، ثمَّ رفع فَقَامَ طَويلا، وَهُوَ دون الْقيام الأول، ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا، وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول، ثمَّ سجد، [ثمَّ قَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول: ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول، ثمَّ رفع فَقَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول، ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول، ثمَّ سجد] ثمَّ انْصَرف وَقد تجلت الشَّمْس فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فاذكروا الله، قَالُوا: يَا رَسُول الله رَأَيْنَاك تناولت شَيْئا فِي مقامك ثمَّ رَأَيْنَاك تكعكعت؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنِّي رَأَيْت الْجنَّة فتناولت عنقوداً وَلَو أصبته لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدُّنْيَا، وأريت النَّار فَلم أر منْظرًا [كَالْيَوْمِ] قطّ أفظع، وَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا النِّسَاء، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بكفرهن! قيل: يكفرن بِاللَّه؟ قَالَ: يكفرن العشير ويكفرن الْإِحْسَان، لَو أَحْسَنت إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْر كُله ثمَّ رَأَتْ مِنْك شَيْئا قَالَت: مَا رَأَيْت مِنْك خيرا قطّ " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ
شرح الحديث :
فهذه الكيفية جاء فيها ركوعان في كل ركعة، وأما تكرار الركوع يعني أن يكون أكثر من ذلك، فهذا لعله مرجوح ويبعد لأن الخسوف كان مرة واحدة.
قوله في الحديث "انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة"
هذا من أدلة الجمهور على أنه كانت القراءة سرا، ولكن يجيب الحنابلة ومن قال بقولهم لعله كان بعيدا عن الصفوف أو نسي ما كان في القراءة فعبر بأنه نحو من سورة البقرة لطوله، أي : أنه قرأ أكثر من سورة فكان المجموع بمقدار قريب من سورة البقرة.
"نحوا من سورة البقرة" إذن؛ تكون القراءة طويلة. إذن أول شيء تكون الصلاة جهريةً ولو في كسوف الشمس، ثاني شيء يقرأ بعد الفاتحة سورة طويلة.
"ثم ركع ركوعا طويلا" بعض العلماء قال : يركع ركوعا طويلا، بعضهم قال : بقدر معظم القراءة.
"ثم رفع" كيف يرفع؟ يرفع فيقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد.
ثم يقرأ الفاتحة مرة أخرى بعد الاستعاذة على الأقوى يقرأ الفاتحة وهذا مذهب الجمهور، وفي رواية عن مالك رحمه الله لا يقرأ الفاتحة هنا -أي لا يقرأها مرة ثانية-.
"ثم رفع فقام طويلا وهو دون القيام الأول" أي أنه يقرأ سورة طويلة ولكن نسبته في القراءة الأولى أقل وهل يكون هناك قراءة في القيام الثاني نقول : نعم، مذهب الجمهور لا بد من قراءة الفاتحة في القيام الثاني ولا تصح دون ذلك.
"ثم ركع ركوعا طويلا" هذا الركوع الثاني مسنون والراجح ثبوته خلافا لقول الحنفية، ولكنه سنة زائدة لا تدرك به الركعة على الأقوى والله أعلم.
"ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد "وهذا السجود لم يأت في هذه الرواية تطويله، وكذالك لم يذكر في هذه الرواية التطويل في الاعتدال بعد الركوع الثاني، ولم يذكر فيها التطويل في الجلسة بين السجدتين ولا في التشهد. وذهب الجمهور إلى ذلك.
هنا لاحظوا ؛ ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول (هذا الركوع الثاني) ثم ركع قبله أيش؟ قبله الاعتدال. هذا الاعتدال ذهب الجمهور إلى أنه لا يطول. ولكن في وجه عند الشافعية، واختاره النووي، وأيضا هو ترجيح شيخنا ابن العثيمين رحمه الله إلى أنه يطول القيام الثاني، وأيضا يطول السجود، وأيضا يطول في الجلسة بين السجدتين. والجمهور يقولون لا يطول هذه المواضع، وأنه ما جاء في بعض الروايات من أنه: "ثم رفع فأطال قبل السجود" في مسلم، وأنه من رواية أبي الزبير عن جابر وتكلموا فيها، ولكن يرده أنه جاء في حديث عائشة رضي الله عنها نحوه عند النسائي، أو أنها إطالة يسيرة، أو أنها إطالة نادرة والله أعلم.
و الأظهر أن التطويل يكون في كل أركان الصلاة، و لكن مع التناسق، و هذا وجه عند الشافعية، و هو الذي رجحه النووي و هو اختيار الشيخ العثيمين.
وقد صحح النووي تطويل السجود في « الروضة » ، فقال : الصحيح المختار أنه يطول ، وكذا صححه في « شرح المهذب » ، وفي « المنهاج » من زياداته ، واقتصر في « تصحيح التنبيه » على المختار.
قال:ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس. فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروالله."
هل كان هذا خطبة؟ هذا يدل على وجود الخطبة وهو قول مالك والشافعي واختاره شيخنا ابن العثيمين، وهو رواية عن أحمد رحمة الله على الجميع خلافا للحنفية والحنابلة قالو:لا خطبة في الكسوف، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر فقال:"فادعو الله وصلوا" ولم يأمر بالخطبة. ولكن هذه الرواية ترد على هذا القول فيقولون إنها لم تكن خطبة وإنما كانت إزالة لهذا الإشكال في ظنهم أنه حصل الكسوف لوفاة ابنه صلى الله عليه وسلم.
طيب، بعده قال:"فإذا رأيتم ذلك فاذكرو الله" قالوا:يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت (أي:تأخرت) قال:"إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبتم لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفضع ورأيت أكثر أهلها النساء" قالوا:لم يا رسول الله؟ قال:"بكفرهن" قيل:يكفرن الله؟ قال:"يكفرن العشير (أي:الزوج) ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداكن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت:ما رأيت منك خيرا قط" متفق عليه واللفظ للبخاري.
وهذا الخلق الذميم وهو اللؤم وإنكار الفضل مذموم وهو من الكبائر. وفي هذا وعيد. ويشترك فيه النساء والرجال، ولكنه يكثر حصوله في النساء. ولذا ذكر. ولو حصل من الرجال لكان مذموما بل أشد في الذم.
الحديث الرابع
٣٩٥– وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:أنه صلى في كسوف قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع ثم سجد، قال:والأخرى مثلها. رواه مسلم.
شرح الحديث :
هذا يدل على تكرار الركوع أربعا في ركعة واحدة. وفي لفظ له صلى رسول الله حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك. وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال:أصح رواية عندي في صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات. وهذا هو المعتمد.
ويلاحظ، أن من الفروق بين صلاة الكسوف والصلوات المعتادة هذه الزيادة (أي:زيادة الركوع) فالقول بأن صلاة الكسوف كصلاة الفجر هذا قول مرجوح، وكذلك زيادة الركوعات على ركعتين في كل ركعة أيضا قول مرجوح. والله أعلم.
والكسوف يكون في المسجد وأما الاستسقاء كالعيد فيكون في المصلى.
الحديث الخامس
٣٩٦– وعن عائشة رضي الله عنها:أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديا: الصلاة جامعة! فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات متفق عليه واللفظ لمسلم.
شرح الحديث:
الصلاة جامعة مبتدأ وخبر. أو الصلاة جامعة:الصلاة منصوب على الإغراء، وجامعة على الحال. فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. أربع سجدات منصوب معطوف على أربع ركعات. إذا هذا يدل على أنه لا أذان في صلاة الكسوف ولكن ينادى لها لأنها تأتي فجأة فينادى لها. وأما العيد والاستسقاء فذهب بعض العلماء إلى قياسهما على صلاة الكسوف، وأنه يقال فيهما "الصلاة جامعة". والأقرب أن النفوس متهيئة في صلاة العيد وصلاة الاستسقاء والناس مجتمعون فلا نداء فيهما، وإنما هذا النداء المختصر (أي:الصلاة جامعة) يكون في الكسوف وحده... والله أعلم.
ثانيا : باب صلاة الاستسقاء وفيه (٩) أحاديث.
التمهيد :
صلاة الاستسقاء : الدعاء لطلب السقيا من الله تعالى. سببها : إذا أجدبت الأرض و قحط المطر و تأخر نزوله عن أول زمانه.
حكمها سنة مؤكدة و الأفضل أن تصلى جماعة و إن صلاها منفردا فقد أدى هذه السنة. و ذهب الحنفية إلى أنها تصلى منفردا و لا تصلى بالصفة التي سنذكرها و هو رواية عن أبي يوسف، و المعتمد في المذهب قول محمد بن الحسن أن الاستسقاء تصلى بالصفات المذكورة في الأحاديث الآتية و أنها مستحبة كما ذكره ابن عابدين في حاشيته اتباعا للصاحبين ، و أن أبا حنيفة قد عدها شاذة أو لم تبلغه ، و المعتمد عند المتأخرين استحباب صلاة الاستسقاء، و هو أقل من السنة المؤكدة.
الحديث الأول:
497 - عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن كنَانَة قَالَ: أَرْسلنِي أَمِير من الْأُمَرَاء إِلَى ابْن عَبَّاس يسْأَله عَن الصَّلَاة فِي الاسْتِسْقَاء؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَا مَنعه أَن يسألني؟ " خرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعا فَصَلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيد لم يخْطب خطبكم هَذِه " رَوَاهُ أَحْمد وَهَذَا لَفظه، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، (وَالتِّرْمِذِيّ وَ صَححهُ) ، وَأَبُو عوَانَة فِي " صَحِيحه "، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم.
والحديث قال عنه الترمذي: "حسن صحيح"
قال الحاكم في المستدرك : "هَذَا حَدِيثٌ رُوَاتُهُ مِصْرِيُّونَ وَمَدَنِيُّونَ ، وَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مَنْسُوبًا إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْجَرْحِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ"
و هشام بن إسحاق، قال فيه أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: "صدوق"، وقال الحافظ: "مقبول".
فحديث الباب حسن، و يحمل قول الترمذي على أن بهذا الإسناد حسن و هو صحيح بالشواهد، فالقصة بمجموعها ثابتة.
شرح الكلمات :
(أمير من الأمراء)، جاء تسميته عند أحمد و أبي داود و الترمذي و أبي عوانة و الحاكم، و هو أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب القرشي.
(متبذلا) بتقديم التاء على الموحدة أي لابسا لثياب البذلة تاركا لثياب الزينة تواضعا لله تعالى. التبذل والابتذال ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع. و لا يدل على ترك الطيب عند الشيخ العثيمين، و لكن الجمهور من الشافعية و الحنابلة و غيرهم قالوا بالاكتفاء بالنظافة و ترك الطيب لأنه نوع من التزين.
(متخشعا مترسلا) أي : متأنيا لا يستأجل.
(متضرعا) أي مظهرا للضراعة وهي التذلل عند طلب الحاجة و الإلحاح في الدعاء.
شرح الحديث :
في عون المعبود : (فلم يخطب خطبكم هذه) النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة.
وقال الزيلعي مفهوم الحديث أنه خطب لكنه لم يخطب كما يفعل في الجمعة ولكنه خطب الخطبة واحدة فلذلك نفى النوع ولم ينف الجنس ولم يرو أنه خطب خطبتين فلذلك قال أبو يوسف يخطب خطبة واحدة ومحمد يقول يخطب خطبتين ولم أجد له شاهدا انتهى .
فالأرجح أن المعنى : أنه لم يطل في خطبته و بل كان أكثر كلامه دعاء و استغفارا، أو أنه لم يخطب خطبتين.
و ذهب طائفة من أهل العلم منهم الإمام أحمد إلى أن الخطبة واحدة فقط، و عند مالك و الشافعي و رواية عن أحمد أنها خطبتان.
و قيل أن المقصود أن الخطبة بعد الصلاة كالعيد و ليس كالجمعة.
(ثم صلى ركعتين) فيه دليل على استحباب الصلاة لم يخالف فيه إلا الحنفية.
(كما يصلي في العيد) تمسك به الشافعي ومن معه في مشروعية التكبير في صلاة الاستسقاء كتكبير العيد وتأوله الجمهور على أن المراد كصلاة العيد في عدد الركعة والجهر بالقراءة وكونها قبل الخطبة، و الأول أقرب و الله أعلم.
الحديث الثاني:
498 - وَعَن عَائِشَة قَالَت: " شكت النَّاس إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قُحُوط الْمَطَر، فَأمر بمنبر فَوضع لَهُ فِي الْمُصَلى ووعد النَّاس يَوْمًا يخرجُون فِيهِ، قَالَت عَائِشَة: فَخرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حِين بدا حَاجِب الشَّمْس، فَقعدَ عَلَى الْمِنْبَر وكبّر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَحمد الله عَزَّ وَجَلَّ ثمَّ قَالَ: إِنَّكُم شكوتم جَدب دِيَاركُمْ واستئخار الْمَطَر عَن إبّان زَمَانه عَنْكُم، وَقد أَمركُم الله عَزَّ وَجَلَّ أَن تَدعُوهُ ووعدكم أَن يستجيب لكم! [ثمَّ] قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدَّين، لَا إِلَه إِلَّا الله يفعل مَا يُرِيد، اللَّهُمَّ أَنْت الله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، (أَنْت) الْغَنِيّ وَنحن الْفُقَرَاء، أنزل علينا الْغَيْث (وَلَا تجعلنا من القانطين) ، وَاجعَل مَا أنزلته لنا قُوَّة وبلاغاً إِلَى حِين، ثمَّ رفع يَدَيْهِ فَلم يزل فِي الرّفْع حَتَّى بدى بَيَاض إبطَيْهِ، ثمَّ حوّل إِلَى النَّاس ظَهره وقلب - أَو حوّل - رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ، ثمَّ أقبل عَلَى النَّاس وَنزل فَصَلى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ الله سَحَابَة فَرعدَت وَبَرقَتْ ثمَّ أمْطرت بِإِذن الله، فَلم يَأْتِ مَسْجده حَتَّى سَالَتْ السُّيُول، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتهمْ إِلَى الْكن ضحك رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه فَقَالَ: أشهد أَن الله عَلَى كل شَيْء قدير وَأَنِّي عبد الله وَرَسُوله " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: (هَذَا حَدِيث غَرِيب، إِسْنَاده جيد)) .
الحديث حسن، لأن فيه القاسم بن مبرور وخالد بن المزار وهما صدوقان حسنا الحديث، وقد أخرجه أيضا الطحاوي والطبراني والحاكم والبيهقي كلهم بهذا الإسناد.
[1] حتى يأتوا و قد أثر فيهم رجوعا إلى الله تعالى، و لأن دعوة الصائم لا ترد كما ورد عند ابن ماجه و الترمذي –و حسنه-، و لأن الصوم يهيئ الناس يخرجون على الهيئة المناسبة و هو التواضع و التبذل و رقة القلب و انكسار القلب، و جاء عند عبد الرزاق أن عمر بن عبد العزيز كان يأمر الناس بالصوم عند الاستسقاء. و عند ابن الجوزي و الشيخ العثيمين فلا يرى أمر الناس بالصوم، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم مع وجود المقتضى في زمانه.
شرح الكلمات:
(مَالك يَوْم الدَّين) قال أبو داود : "أهل المدينة يقرؤون {مالك يوم الدين} وإن هذا الحديث حجة لهم."
قال ابن مجاهد في كتابه "السبعة" ص 104: اختلفوا في قوله: {مالك يوم الدين} فقرأ عاصم والكسائي (مالك يوم الدين) بألف، وقرأ الباقون (ملك) بغير ألف.
(الكن): بكسر الكاف وتشديد النون: ما يرد به الحر والبرد من المساكن.
(قحوط المطر) احتباس المطر وفقده. في القاموس : القحط احتباس المطر.
(المصلى) المكان خارج البلد و ليس مسجدا.
(حاجب الشمس) في القاموس حاجب الشمس ضوءها أو ناحيتها انتهى
وإنما سمي الضوء حاجبا لأنه يحجب جرمها عن الإدراك.
(جدب دياركم) بفتح الجيم وسكون المهملة أي قحطها.
(واستيخار المطر) أي تأخره.
قال الطيبي : والسين للمبالغة يقال استأخر الشيء إذا تأخر تأخرا بعيدا.
(عن إبان زمانه) بكسر الهمزة وتشديد الباء أي وقته من إضافة الخاص إلى العام يعني عن أول زمان المطر، وإلا بان أول الشيء.
قال في النهاية قيل نونه أصلية فيكون فعالا وقيل زائدة فيكون فعلان من آب الشيء يؤب إذا تهيأ للذهاب
وفي القاموس إبان الشيء بالكسر حينه أو أوله
(قوة) أي بالقوت حتى لا نموت والمعنى اجعله منفعة لنا لا مضرة علينا (وبلاغا) أي زادا يبلغنا (إلى حين) أي من أحيان آجالنا.
(وقلب) بالتشديد (أو حول رداءه) شك من الراوي.
(فأنشأ الله سحابة) أي أوجد وأحدث (فرعدت وبرقت) بفتح الراء أي ظهر فيها الرعد والبرق فالنسبة مجازية قال في النهاية برقت بالكسر بمعنى الحيرة وبالفتح من البريق اللمعان.
شرح الحديث :
(فأمر بمنبر إلخ) فيه استحباب الصعود على المنبر لخطبة الاستسقاء
(ووعد الناس يوما) أي عينه لهم، ليتأهبوا و يردوا المظالم و يتوبوا إلى الله و يتصدقوا و يصوموا،
حتى يأتوا و قد أثر فيهم رجوعا إلى الله تعالى، و لأن دعوة الصائم لا ترد كما ورد عند ابن ماجه و الترمذي –و حسنه-، و لأن الصوم يهيئ الناس يخرجون على الهيئة المناسبة و هو التواضع و التبذل و رقة القلب و انكسار القلب، و جاء عند عبد الرزاق أن عمر بن عبد العزيز كان يأمر الناس بالصوم عند الاستسقاء. و عند ابن الجوزي و الشيخ العثيمين فلا يرى أمر الناس بالصوم، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم مع وجود المقتضى في زمانه.
ويستحب للإمام أن يجمع الناس ويخرج بهم إلى خارج البلد .
وقد أخرج الحاكم وأصحاب السنن عن بن عباس أن النبي صنع في الاستسقاء كما صنع في العيد وظاهره أنه صلاها وقت صلاة العيد كما قال الحافظ.
وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها قال في الفتح والراجح أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد لكنها مخالفة بأنها لا تختص بيوم معين.
ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة , وأفاد ابن حبان بأن خروجه للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة.
(حين بدا حاجب الشمس) فيه استحباب الخروج لصلاة الاستسقاء عند طلوع الشمس.
(وقد أمركم الله) يريد قول الله تعالى ادعوني أستجب لكم
(ثم قال الحمد لله) فيه دليل على عدم افتتاح الخطبة بالبسملة بل بالحمدلة ولم تأت رواية عنه أنه افتتح الخطبة بغير التحميد كما في السبل.
و في رواية عن الحنابلة و الشافعية أنها تبدأ بالتكبير، و روي عن الشافعية بالاستغفار.
(ثم رفع يديه ... إلخ) فيه استحباب المبالغة في رفع اليدين عند الاستسقاء.
(ثم حول إلى الناس ظهره) فيه استحباب استقبال الخطيب عند تحويل الرداء القبلة.
والحكمة في ذلك التفاؤل بتحوله عن الحالة التي كان عليها، و هي المواجهة للناس إلى الحالة الأخرى و هي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحال الذي هم فيه وهو الجدب بحال آخر وهو الخصب.
الحديث الثالث :
499 - وَعَن أنس بن مَالك قَالَ: " كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَا يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من دُعَائِهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء، وَإنَّهُ يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُرى بَيَاض إبطَيْهِ " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.
شرح الحديث :
قوله إلا في الاستسقاء ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء .
فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى وحمل حديث أنس على نفى رؤيته وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره . وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، أما الرفع البليغ فيدل عليه قوله حتى يرى بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه .
وأما صفة اليدين في ذلك، فلما رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء.
و لأبي داود من حديث أنس أيضا كان يستسقي هكذا ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
قال النووي : قال العلماء السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء. انتهى.
وقال غيره الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرا لبطن كما قيل في تحويل الرداء أو هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض.
الحديث الرابع :
500 - وَعنهُ " أَن رجلا دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة من بَاب نَحْو دَار الْقَضَاء - وَرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَائِم يخْطب - فَاسْتقْبل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَقَالَ: يَا رَسُول الله هلك المَال، وجاع الْعِيَال، فَادع الله لنا! فَرفع يَدَيْهِ، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، قَالَ أنس: وَلَا وَالله وَلَا نرَى فِي السَّمَاء من سَحَابَة وَلَا قزعة وَمَا بَيْننَا وَبَين سلع من بَيت وَلَا دَار، قَالَ: فطلعت من وَرَاءه سَحَابَة مثل الترس، فَلَمَّا توسطت السَّمَاء انتشرت ثمَّ أمْطرت، فَلَا وَالله مَا رَأينَا الشَّمْس سبتاً، ثمَّ دخل رجل من ذَلِك الْبَاب فِي الْجُمُعَة الْمُقبلَة وَرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَائِم يخْطب فَاسْتَقْبلهُ قَائِما، فَقَالَ: يَا رَسُول الله هَلَكت الْأَمْوَال وانقطعت السبل فَادع الله عَزَّ وَجَلَّ يمْسِكهَا عَنَّا! قَالَ فَرفع رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا،اللَّهُمَّ عَلَى الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشّجر، قَالَ فأقلعت وَخَرجْنَا نمشي فِي الشَّمْس، قَالَ شريك: فَسَأَلت أنسا أهوَ الرجل الأول؟ قَالَ: لَا أَدْرِي " مُتَّفق عَلَيْهِ.
شرح الحديث :
(من باب كان نحو دار القضاء) فسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمارة، وليس كذلك وإنما هي دار بيعت لقضاء دين عمر رضي الله عنه الذي كتب على نفسه في بيت المال وأوصى أن يباع فيه ماله، فباع ابنه عبد الله من جملة ماله لأداء هذا الدين، باعها لمعاوية ثم صارت لمروان، ثم طال ذلك فقيل لها دار القضاء.
وجاء في تسميتها دار القضاء قول آخر : أن دار القضاء لعبد الرحمن بن عوف. وإنما سميت دار القضاء لأن عبد الرحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر فيها، فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية بن أبي سفيان.
(نحو) قيل: أنها أمام غرفة الصديق رضي الله عنه أي باب الصديق رضي الله عنه.
وقيل: أن هذا الدخول من جهة باب الرحمة المعروف الآن.
(هلكت الأموال) و في رواية : (المواشي) وهو المراد بالأموال هنا لا الصامت
(وانقطعت السبل) المراد بذلك : أن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها، وقيل المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يحملونه يجلبونه إلى الأسواق
(فادع الله يغيثنا) أي : فهو يغيثنا وهذه رواية الأكثر، فيكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو. و رويت : (أن يغيثنا) و (يغثنا) بالجزم على أنه جواب الشرط. ويجوز الضم في يغيثنا على أنه من الإغاثة وبالفتح على أنه من الغيث، ويرجح الأول قوله : (اللهم أغثنا). وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث، والمعروف في كلام العرب غثنا لأنه من الغوث.
(فرفع يديه) زاد النسائي في رواية سعيد عن يحيى بن سعيد ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون.
(اللهم أغثنا) أعاده ثلاثا في هذه الرواية و رويت أن الإعادة مرتان فقط، والأخذ بالزيادة أولى، ويرجحها ما علم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا.
(قزعة) بفتح القاف والزاي بعدها مهملة، أي : سحاب متفرق و صغير.
(و لا بيننا و بين سلع) سلع بفتح المهملة وسكون اللام، جبل معروف بالمدينة شمال المسجد النبوي، وهو في آخر شارع سلطانة قبل النفق على اليمين.
وبعده جبل سليع، وعنده كان سوق المدينة في ذلك الوقت إلى مسجد الغمامة.
(من بيت و لا دار) أي : يحجبنا عن رؤيته، و أشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا غيره.
(فطلعت) أي : ظهرت.
(من ورائه) أي من وراء الجبل.
(مثل الترس) أي مستديرة وليس المقصود مثله في القدر. و الترس : الشيء الذي يستعمله المحارب يدفع به الأعداء أو أنه آلة تكون عند المحارب في يده يحمي به نفسه.
(فلما توسطت السماء انتشرت) هذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق فانبسطت حينئذ وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر.
(ما رأينا الشمس سبتا) كناية عن استمرار الغيم الماطر.
و السبت يعني أحد الأيام، والمراد به الأسبوع وهو من تسمية الشيء باسم بعضه
(ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة) ظاهره أنه غير الأول لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد.
قول الرجل الثاني : (هلكت الأموال وانقطعت السبل) أي : بسبب غير السبب الأول والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم الرعي أو لعدم ما يكنها من المطر. وأما انقطاع السبل فلتعذر سلوك الطرق من كثرة الماء و كون الطرق زلقة بسبب الطين.
(اللهم حوالينا) بفتح اللام، فيه حذف تقديره : اجعل أو أمطر والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور
(ولا علينا) فيه بيان للمراد بقوله حوالينا لأنها تشمل الطرق التي حولهم فأراد إخراجها بقوله : (ولا علينا). و هو تأكيد على زيادة الإلحاح على الله تعالى.
(الآكام) الإكام بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد، جمع أكمة بفتحات و هو التراب المجتمع مثل الجيل الصغير. و قيل أن الآكام دون الجبال وأعلى من الرابية، فالآكام روابي صغار.
(الظراب) بكسر المعجمة وآخره موحدة، جمع ظرب بكسر الراء وقد تسكن، هو الجبل المنبسط ليس بالعالي.
(بطون الأودية) والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به.
(منابت الشجر) أي يسأل أن يكون المطر مما ينتفع به ولا يحصل به الضرر، وذلك في رؤوس الجبال يجتمع في الأودية ويبقى الناس ينتفعون بعد ذلك.
(فأقلعت) أي توقفت
ما يستفاد من الحديث :
1. (فقال يا رسول الله) هذا يدل على أن السائل كان مسلما، فانتفى أن يكون أبا سفيان، فإنه حين سؤاله لذلك كان لم يسلم
2. فيه جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة وفيه القيام في الخطبة وأنها لا تنقطع بالكلام ولا تنقطع بالمطر.
3. فيه قيام الواحد بأمر الجماعة وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم وترك الابتداء بالسؤال.
4. فيه سؤال الدعاء من أهل الخير ومن يرجى منه القبول وإجابتهم لذلك.
5. وفيه تكرار الدعاء ثلاثا.
6. فيه إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة، و الدعاء به على المنبر، ولا تحويل فيه ولا استقبال والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء.
7. فيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقبه أو معه.
8. فيه الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقا لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع.
9. فيه أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يتسخطها لعارض يعرض فيها بل يسأل الله رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة.
10. فيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل، وإن كان مقام الأفضل التفويض صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بما وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضا لربه ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه في ذلك بيانا للجواز.
11. فيه جواز الصياح في المسجد بسبب الحاجة المقتضية لذلك.
12. فيه أن الاستسقاء لا تشرع فيه صلاة. قال به أبو حنيفة، و تعقب بأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء لا ينافي مشروعية الصلاة لها وقد بينت في واقعة أخرى كما تقدم.
قال ابن بطال : فيه الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء، وتعقب بالرواية التي تقدمت عند النسائي : (ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون)
الحديث الخامس :
501 - وَعَن عبد الله بن زيد الْمَازِني قَالَ: " خرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلَى الْمُصَلى فَاسْتَسْقَى وحوّل رِدَاءَهُ حِين اسْتقْبل الْقبْلَة وَصَلى رَكْعَتَيْنِ، وَفِي لفظ: وقلب رِدَاءَهُ، وَفِي لفظ: وَجعل إِلَى النَّاس ظَهره يَدْعُو الله " مُتَّفق عَلَيْهِ وَاللَّفْظ لمُسلم. وَفِي البُخَارِيّ: " ثمَّ صَلَّى لنا رَكْعَتَيْنِ، جهر فيهمَا بِالْقِرَاءَةِ ". وَله " فَقَامَ فَدَعَا الله قَائِما ثمَّ توجه قِبَل الْقبْلَة وحوّل رِدَاءَهُ فأسقوا ". وَلأَحْمَد: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استسقى وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ بأسفلها فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا فَثقلَتْ عَلَيْهِ فقلبها عَلَيْهِ: الْأَيْمن عَلَى الْأَيْسَر والأيسر عَلَى الْأَيْمن ". وَلأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ نَحوه.
شرح الكلمات :
(وعليه خميصة سوداء) أي كساء أسود مربع له علمان في طرفيه من صوف وغيره . و سوداء صفة لخميصة. وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة وكانت من لباس الناس قديما.
وهذا يدل على لبسه للرداء عليه الصلاة والسلام كان على المنكبين من غير الاشتمال أي من غير أن يكون مشتملا أي محيطا به ولا متعطفا إياه، ولم يكن عادته أن يجعل طرفه على الطرف الآخر.
بعض مسائل الحديث :
اتفق فقهاء الأمصار على مشروعية صلاة الاستسقاء وأنها ركعتان إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال يبرزون للدعاء والتضرع وإن خطب لهم فحسن ولم يعرف الصلاة هذا هو المشهور عنه ونقل أبو بكر الرازي عنه التخيير بين الفعل والترك وحكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء والبروز إلى ظاهر المصر لكن حكى القرطبي عن أبي حنيفة أيضا أنه لا يستحب الخروج وكأنه اشتبه عليه بقوله في الصلاة. اهـ
[واستدل به على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة وهو مقتضى حديث عائشة و ابن عباس المذكورين، و لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة وكذا في حديث أبي هريرة عند بن ماجه حيث قال فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة و هو المرجح عند الشافعية والمالكية و هو رواية عن أحمد مستدلين بتلك الأحاديث و قياسا على خطبة العيد، و حملوا الكلام الذي ورد قبل الصلاة أنه دعاء و استغفار و ليس خطبة. وروي عنه أيضا أنه على التخيير و اختاره الشوكاني و الشيخ العثيمين.]
و يمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء وبعضهم على شيء وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة فلذلك وقع الاختلاف .
وقال القرطبي : يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة لمشابهتها بالعيد وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة .
ولم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني من حديث بن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد وأنه يقرأ فيهما بسبح وهل أتاك، وفي إسناده مقال، لكن أصله في السنن بلفظ : "ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد"
فأخذ بظاهره الشافعي فقال يكبر فيهما. ونقل الفاكهي عن الشافعي استحباب التكبير حال الخروج إليها كما في العيد وهو غلط منه عليه.
(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة) هذا يدل على وقت تحول الرداء وذلك عند الدعاء سواء قبل الصلاة أو بعدها أو بعد الخطبة، فإنه سيحول رداءه ويدعو، ويكون هذا التحويل وهو مستقبل القبلة ويجعل أيدي الناس ظهره. يدعو الله سرا وهذا أخشع ويحول رداءه تفاؤلا إلى المطر سينزل قريبا، وكان من عادتهم يقلب الباطن ظاهرا والظاهر باطنا إذا توقعوا نزول المطر خوفا على جمال الظاهر. لأن العادة الجهة الظاهرية يكون أجمل فيخشى أن تتأثر بالمطر.
إذن القلب تفاؤل وهو مما يسن فعله للمصلي أيضا. وبعض العلماء قال: إنه خاص بالإمام، ولكن الأول أرجح.
الحديث السادس
502 - وَعَن أنس: " أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ إِذا قُحطوا استسقى بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نتوسل إِلَيْك بنبينا فتسقينا وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعم نَبينَا فاسقنا فيسقون " رَوَاهُ البُخَارِيّ: وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: (لم يروه غير الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه، وَأَبُوه عبد الله بن الْمثنى لَيْسَ بِالْقَوِيّ)) .
الأنصاري هو محمد بن عبد الله، يروي هذا الحديث عن أبيه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، و هو يرويه عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك.
و عبد الله بن المثنى قال فيه الدارقطني : "ليس بالقوي"، و قاله غيره كالحافظ في (التهذيب) و في (الهدي) أن فيه ضعفا و أنه يخطئ. و قال النسائي : "ليس بالقوي"، و قال أبو داود : "لا أخرج حديثه"، و جاء عن ابن معين في رواية : "ليس بشيء"، و عن الساجي : "فيه ضعف روى مناكير".
و لكن جاء الثناء عليه أيضا في رواية أخرى عن ابن معين و أبي زرعة، و قال أبو حاتم فيه : "صالح"، و ذكره ابن حبان في (الثقات) و قال : "ربما يخطئ".
و قد اختلف عن الدارقطني في هذا الراوي، إذ ورد عنه أنه قال فيه : "ثقة حجة" كما في (سؤالات الحاكم على الدارقطني) و نقله الحافظ في (التهذيب).
و تلخص الحافظ في الحكم عليه، فقال في (التقريب) : "صدوق كثير الغلط." و قال في (الهدي) : "احتج به البخاري في روايته عن عمه ثمامة" و المعتمد أن الحديث إذا كان في (البخاري) فإنه جاوز القنطرة، و لكن قد يحتاج البخاري براو فيه شيء من الضعف، لأنه رأى أنه يضبط هذا الحديث بعينه. و الله أعلم.
شرح الكلمات :
(كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط .
وقد أخرج الزبير بن بكار في الأنساب من طريق داود عن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب ...
وذكر بن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة 18 هـ، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر.
ما يستفاد من الحديث :
1. استحباب الاستشفاع و التوسل بدعاء الأحياء من أهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة.
2. استحباب تقديم من شأنه مظنة الاستجابة لصلاة الاستسقاء.
3. فضل العباس.
4. فضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه.
الحديث السابع :
503 - وَعَن عَائِشَة: " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َكان إذا رأى المطر قَالَ: "صيبا نافعا" رواه البخاري.
شرح الكلمات :
(صيّبا) : ما سال من المطر وجرى، و قيل هو سيْبا أي عطاء.
(نافعا) احترازا مما يحصل به الضرر.
فيه سنية الدعاء عند نزول المطر، والدُّعاء في الازدياد في الخير والبركة والنفع به.
الحديث الثامن :
504 – عن أنس قال : أصابنا و نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مطر، فحسر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثَوْبه حَتَّى أَصَابَهُ الْمَطَر، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله لم صنعت هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيث عهد بربه " رَوَاهُ مُسلم.
شرح الكلمات :
(حسر) كشف الملابي عن بعض بدنه.
(حديث عهد بربه) قال النووي : أي بتكوين ربه إياه. ومعناه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها.
و الأقرب أنه جديد لم يتأثر بملامسة شيء، أو أنه دليل على القرب من الله تعالى. أما ما قاله النووي، فلا فرق إذن بين المطر و بين غيره، و الله أعلم.
ما يستفاد من الحديث :
1. قال النووي رحمه الله : في هذا الحديث دليل لقول أصحابنا أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف غير عورته ليناله المطر واستدلوا بهذا وفيه أن المفضول إذا رأى من الفاضل شيئا لا يعرفه أن يسأله عنه ليعلمه فيعمل به ويعلمه غيره.
2. و جاء عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿وَنَزَّلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ مُّبَٰرَكٗا﴾ : أحب أن تصيب البركة فراشي و رحلي. اهـ. و الرحل : الأثاث.
3. دليل على علو الله تعالى.
الحديث التاسع :
505 - وَعَن عَائِشَة بنت سعد أَن أَبَاهَا حدثها: " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نزل وَاديا دهشاً لَا مَاء فِيهِ وَسَبقه الْمُشْركُونَ إِلَى القلات فنزلوا عَلَيْهَا، وَأصَاب الْعَطش الْمُسلمين فشكوا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَنجم النِّفَاق فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين: لَو كَانَ نَبيا، كَمَا يزْعم، لاستسقى لِقَوْمِهِ كَمَا استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ! فَبلغ ذَلِك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أَو قالوها؟ ! عَسى ربكُم أَن يسقيكم، ثمَّ بسط يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ جللنا سحاباً كثيفاً قصيفاً دلوقاً مخلوفاً ضحوكاً زبرجاً تمطرنا مِنْهُ رذاذاً قِطقطاً سجلاً بغاقاً يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام. فَمَا رد يَدَيْهِ من دُعَائِهِ حَتَّى ظللتنا السَّحَاب الَّتِي وصف، تتلون فِي كل صفة وصف رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثمَّ أمطرنا كالضروب الَّتِي سَأَلَهَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَعم السَّيْل الْوَادي وَشرب النَّاس فارتووا " رَوَاهُ أَبُو عوَانَة الإسفرايني فِي " صَحِيحه ".
هذا الحديث في مستخرج على مسلم لأبي عوانة، و لكنه من زوائد أبي عوانة منا بوبه.
و فيه أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الأنصاري البلوي المديني. ذكر الذهبي عن الدارقطني قوله فيه: "يضع الحديث"، ثم قال: "روى عنه أبو عوانة في الاستسقاء خبرا موضوعا". وقال الحافظ ابن حجر: "وهو صاحب رحلة الشافعي، طَوَّلهَا ونَمَّقها، وغالب ما أورده فيها مختلق".
و ذكره ابن الملقن في البدر المنير و لم يعزه لغير أبي عوانة، وقال: "رواه أبو عوانة في صحيحه كذلك، قال: وهو مما لم يخرجه مسلم، أي وهو على شرطه"
و عزاه الحافظ في التلخيص الحبير إلى أبي عوانة أيضًا، وقال: "فيه ألفاظ غريبة كثيرة، وسنده واه"
وعلته عبد الله البلوي، وقد تقدم قول الذهبي فيه: "روى عنه أبو عوانة في الاستسقاء خبرا موضوعا". فإسناد المصنف واهٍ، والله تعالى أعلم.
شرح الكلمات :
(واديا دَهْسًا) في رواية : دهشًا، والصواب المثبت، والدَّهس: ما سهل من الأرض ولم يبلغ أن يكون رملا.
(القِلاب) جمع قليب، وهو البئر التي لم تطو.
(ونَجَم النِّفاق) أي : ظهر و خرج.
(اللهم جَلِّلنا) المجلل: الذي يستر الأرض بالماء، والنبات الذي ينبت عنه، كأنه يكسوها به. كما يجلّل الفرس بجلاله.
(قصيفًا) القصف: بالكسر الدفع الشديد، ورعد قاصف: شديد الصوت.
(دَلوفًا) الدليف: يقال عُقَاب دلوف أي سريعة، والدَّليف: المشي الرويد إذا مشى وقارب الخطى.
(خلوفًا) الخَلْف: الاستقاء، وأخلفت القوم: حملت إليهم الماء العذب.
(ضحوكًا) يسمى انجلاء السحاب عن البرق ضحكًا.
(زِبْرِجًا) الزِّبرج: السحاب الرقيق فيه حمرة، وقيل: الخفيف الذي تسفره الريح.
(رذاذًا) الرّذاذ: أقل ما يكون من المطر، وقيل: السّكن الدائم، الصغار القطر كأنه غبار، قال الأصمعي: "أخف المطر وأضعفه: الطّلَّ، ثم الرّذاذ؛ والرّذاذ فوق القِطْقِط".
(قِطْقِطًا) القطقط: بالكسر، صغار المطر، وقيل غير ذلك.
(سَجْلًا) السجل: الصب، يقال: سجلت الماء سجلا إذا صببته صبًّا متصلا.
(بُعاقًا) البُعاق: بالضم المطر الكثير الغزير الواسع.
ثالثا : كتاب الجنائز
(الجنائز) جمع جنازة، مشتق من جَنَزَ يَجْنِزُ، أي : ستر. ويقال بفتح الجيم وكسرها، والكسر أفصح. وقيل بالكسر بمعنى النعش وبالفتح بمعنى الميت، ويمكن ضبط هذين المعنيين بطريقة سهلة : الأعلى (الميت) بالفتح –لأن الفتحة تكون في الفوق- والأسفل (النعش) بالكسرة.
بَاب فِي الْمَوْت
506 - عَن أنس قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضر نزل بِهِ، فَإِن كَانَ لَا بُد متمنيا فَلْيقل: اللَّهُمَّ أحيني مَا كَانَت الْحَيَاة خيرا لي، وتوفني إِذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَفِي البُخَارِيّ: " أحد مِنْكُم الْمَوْت ".
نهي عن تمني الموت لما فيه من الاعتراض على القضاء والقدر، وأصل الخطاب للصحابة، ولكنه يعمهم ومن بعدهم من المسلمين.
(لضر نزل به) الضر الدنيوي، أما الضر الديني فقد حصل ذلك لجمع من السلف كالإمام البخاري رحمه الله.
(فإن كان لا بد متمنيا فليقل ...) هذا الأمر للإباحة
507 - وَعَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُويحسن بِاللَّه الظَّن " رَوَاهُ مُسلم.
هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، أي : ليظن عن الله أنه يرحمه ويعفوعنه، وأما في حال الصحة فيكون خائفا راجيا سواء، وقيل يُغَلِّب جانب الخوف.
--508 - وَعَن بُرَيْدَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " الْمُؤمن يَمُوت بعرق الجبين " رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه.
قال الترمذي : حديث حسن. وقد قال بعض أهل الحديث، لا نعرف لقتادة سماعا من عبد الله بن بريدة، وهكذا قال البخاري كما ذكره الحافظ في التهذيب.
معنى الحديث : يحصل له العرق لِمَا يعالج من شدة الموت، وهذا أقل الشدة، وقيل إنه من الحياء، حيث أنه لما تأتيه البشرى بالجنة يستحيي من تقصيره. ويحتمل أن يكون علامة لا نعرف سببها، والله أعلم.
509 - وَعَن أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة قَالَا، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لقنوا مَوْتَاكُم: لَا إِلَه إِلَّا الله " رَوَاهُ مُسلم.
ذكّروا من حضره الموت بالشهادة لتكون آخر كلامه، والأمر هنا للندب، ولا يقول له : قل! بل يتشهد عنده، ولكن من دون إكثار (لا يزيد على الثلاث) ولا تكرار عليه لئلا يضجر. ولكن إذا لقنه ولم يعد ولم يجب، له أن يعيد تلقينه برفق ولطف ومداراة، لأنه مشغول بما هوفيه، وقد يتأذى منه إذا كان بعنف.
وينبغي ألا يلقنه من يتهمه لكونه وارثا أوعدوا أوحاسدا.
وطريقة التلقين : أنه يقرأ عنده (لا إله إلا الله)، فإن من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة وفي الحديث "من مات وهويعلم (لا إله إلا الله) دخل الجنة"، "ما من عبد قال (لا إله إلا الله) ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة."، وكلاهما عند مسلم. ومعروف أن (لا إله إلا الله) من موجبات دخول الجنة من غير تقييد بحالة الموت، فمن باب أولى أن توجب ذلك إذا كان في وقت لا تعقبه معصية.
(موتاكم) من حضر الموت، وذلك باعتبار ما سيؤول إليه، كقول النبي ﷺ : "من قتل له قتيل".
(لا إله إلا الله) اقتصر عليها لأنها متضمنة لشهادة أن محمدا رسول الله، إلا إذا تكلم بعده بكلام فيعيد تلقينه فيذكره بذلك.
ويتضمن الحديث تأنيس المحتضر وإغماض عينيه بعد موته.
واستحب شيخ الإسلام وغيره تطهير ثيابه به قبل موته.
ومن الآداب التي ذكرها الفقهاء : قراءة سورة ياسين عنده، لحديث : "اقرؤوا على موتاكم سورة يس" رواه أبوداود وفي سنده بعض الضعف، لكن قال باستحباب قراءته عند المحتضر جمهور كثير من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومما قيل في حكمة ذلك :
1. أن سورة يس مشتمل على أحوال القيامة وأهوالها وتغير الدنيا ونعيم الجنة وعذاب الآخرة. ومعنى (موتاكم) في هذا الحديث -كما سبق- : من حضره الموت، فقراءة يس عليه تكون قبل موته لا بعده.
2. ذكر صاحب (الروض) أنه يسهل خروج الروح، كما يقرأ عنده أيضا سورتي الفاتحة وتبارك.
قال الإمام أحمد : يقرأ عند الميت إذا حضر ليخفف عنه، بالقرآن.
وذكر صاحب الزاد أنه يوجهه إلى القبلة قبل النزول به وتيقن موته، لقوله ﷺ عن بيت الله الحرام : "قبلتكم أحياء وأمواتا". وكما في قضة البراء بن معرور لما أوصى إلى القبلة، فقال ﷺ : "أصاب السنة."
ويكون على جنبه الأيمن أفضل إن كان المكان واسعا لتوجيهه على جنبه، كما يتوشد اليمين عند النوم، فكذلك ينبغي أن يكون المحتضر كذلك. وإن لم يكن المكان واسعا فعلى ظهره مستلقيا ورجلاه إلى القبلة، كما يوضع في مغتسله.
وروي عن الإمام أحمد أنه يوجه مستلقيا على قفاه، سواء أكان المكان واسعا أم ضيقا، لأنه أيسر لخروج الروح وتغميض عينه وشدّ لحييه وأمنع من تقميص أعضائه.
قال الموفق ابن قدامة : "ويحتمل أن يجعل ظهره بكل حال، ويرفع رأسه قليلا ويكون رأسه أعلى من رجليه لينصب عنه الماء وما يخرج منه ليصير وجهه إلى القبلة إذا لم يشق."
510 - وَعَن أم سَلمَة قَالَت: " دخل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى أبي سَلمَة وَقد شقّ بَصَره فأغمضه، ثمَّ قَالَ: إِن الرّوح إِذْ قبض تبعه الْبَصَر فَضَجَّ نَاس من أَهله فَقَالَ: [لَا تدعوا عَلَى أَنفسكُم إِلَّا بِخَير، فَإِن الْمَلَائِكَة يُؤمنُونَ عَلَى مَا تَقولُونَ، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لأبي سَلمَة وارفع دَرَجَته] اللَّهُمَّ اجْعَل دَرَجَته فِي المهديين واخلفه فِي عقبه فِي الغابرين، واغفر لنا وَله يَا رب الْعَالمين، وافسح لَهُ فِي قَبره وَنور لَهُ فِيهِ ". وَفِي لَفْظَة: " واخلفه فِي تركته " رَوَاهُ مُسلم.
في لفظ للبيهقي عن بكر بن عبد الله المزني : "بسم الله وعلى ملة رسول اللهﷺ."
(شق بصره) بالرفع، أي : شخص. قيل بالنصب، أي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه.
(فأغمضه) يدل على استحباب إغماض الميت لئلا يقبح منظره، وأجمعوا على ذلك إذا خرجت الروح من الجسد، ولا يفعل ذلك قبل مفارقة الروح الجسد.
وذكر أبوداود أن أبا ميسرة غمض جعفر بن معلم حال الموت، فرآه في منامه يقول : أعظم ما كان لي عليك تغميضك قبل الموت.
وإذا مات سن تغميضه وشد لحييه لئلا يدخله الهوام، تشد لحيا بعصابة أونحوها، تجمع لحييه وتربطهما فوق رأسه، لئلا يبقى ذقنه مفتوحا فيتشوه خلقه أويدخله شيء كالهوام أوالماء قبل وقت غسله.
(إن الروح إذ قبض) هكذا في المحرر، وفي صحيح مسلم بـ (إذا) والظاهر أنما في المحرر خطأ مطبعي. أي : أن الروح إذا خرج من الجسد. الروح يُذكَّر ويُؤنَّث، وهنا جاء بالتذكير.
(تبعه البصر) أي : ناظرا أين يذهب.
(في الغابرين) أي : في الباقين.
فيه استحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله ولذريته.
ويسن أيضا تليين مفاصل أعضاء اليدين والرجلين قبل قسوتها (عقب موته) حيث تبقى الحرارة ولا تزال باقية في البدن، وذلك ليسهل تغسيله. لأنها إذا بردت لن يمكن تليينه.
وطريقة التليين : أن يرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يردهما إلى جنبيه، ويرد أصابع يديه إلى كفيه ثم يبسطهما، ويرد ساقيه إلى فخذيه، ويرد فخذيه إلى بطنه، ثم يردهما، وكل هذا إذا سهل الأمر. فإن شق لا يفعل ذلك، رفقا به.
511 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: " أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حِين توفّي سُجّي بِبرد حبرَة " مُتَّفق عَلَيْهِ
(برد) كساء معروف مخطط.
(حِبَرَة) نوع من برد اليمن يكون مُخَطَّطًا ولينا –لأنه من قطن- وجميل الشكل.
(سُجِّيَ) أي : غُطِّيَ جميع بدنه. فيه استحباب تغطية الميت(وجهه وسائر بدنه)، وهذا بالإجماع. وفيه صياتنه من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين، وتُنزع ثيابه التي توفي فيها لئلا يحمى جسده فيسرع إليه الفساد ، ويُلَفُّ طرف الثوب المسجَّى به تحت رأسه والطرف الآخر تحت رجليه لئلا ينكشف ويرتفع بالريح أونحوه. ويسن أيضا وضع مرآة أوسيف أوشيء على بطنه فوق الثياب التي سجي بها –وهومستلق على ظهره- لئلا ينتفخ بطنه فيقبح منظره، ولا يكون الذي يوضع عليه مصحف أوكتب فقه أوحديث أوما شابه ذلك.
ويسن وضعه على سرير غسله لأنه يبعده عن الهوام ويرفعه عن نداوة الأرض حتى لا يتغير بها. إلا إذا كانت الأرض صلبة فلا بأس بوضعه عليها لزوال العلة وهي خشية تغيره.
ويستحب أن يكون الذي يعمل بكل ما تقدم، أرفق الناس.
512 - وَعَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: " أَن أَبَا بكر قبّل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد مَوته] " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
(أن أبا بكر رضي الله عنه قبل النبي ﷺ بعد موته) قبل جبهته ثلاثا وهويقول : "وا نبياه وا صفياه وا خليلاه"، ويقول وهويبكي : "بأبي وأمي، طبت حيا وميتا." وهذا دليل على جواز تقبيل الميت والنظر إليه -ولوبعد تكفينه-، وذلك لمن يباح ذلك منهم في الحياة.
--
513 - وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " نَفْس الْمُؤمن معلقَة بديْنه حَتَّى يُقضى عَنهُ " رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن مَاجَه، وَأَبُويعْلى، (وَالتِّرْمِذِيّ، وَحسنه) .
تحسين الترمذي له لأن فيه عمر بن أبي سلمة وهو ضعيف يعتبر به، قال يحيى القطان عنه : "ضعيف. والحديث صحيح."، وذلك لمتابعة الزهري له عند عبد الرزاق في مصنفه، وأيضا له شاهد بإسناد صحيح عن سمرة بن جندب عند أبي داود.
(نفس المؤمن معلَّقَة) محبوسة عن دخول الجنة وأمره موقوف حتى يُقضى عنه دينه. وفيه حث للورثة على قضاء دين الميت. وحمله الماوردي على من له مال يقضى منه دينه، بخلاف من لا مال له ومات عازما على القضاء، فالله يقضي عنه.
وينبغي أيضا الإسراع بتنفيذ وصاياه.
- بَاب غسل الْمَيِّت
514 - عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " بَيْنَمَا رجل وَاقِف مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِعَرَفَة إِذْ وَقع من رَاحِلَته فأقصعته - أَوقَالَ فأقعصته - فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اغسلوه بِمَاء وَسدر وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تحنطوه وَلَا تخمروا رَأسه، فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبياً " وَفِي لفظ: " وَهُويُلَبِّي "، وَفِي لفظ: " وَلَا تمسوه طيبا فَإِن الله عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبياً " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.
(بينما رجل واقف مع رسول الله بعرفة) أطلق الوقوف على الركوب.
(فأقصعته –أوقال فأقعصته) المعنى : قتلته. وفي رواية : (وقصته) أي : كسرت عنقه.
قال الحافظ : لم أقف على تسمية هذا الصحابي.
دل الحديث على أن الميت المحرم يكفن في ثوبيه –أي : في الإزار والرداء- الَّذَيْن كان محرما فيهما.
وعلى أن الكفن في ثوبين جائز، أما الثلاثة المذكورة في حديث عائشة فإنها مستحبة. إنما الواجب ثوب واحد ساتر يحجب البدن.
وكفن في ثوبيه إكراما له لأن الإحرام لا ينقطع بالموت، خلافا للحنفية والمالكية الذين قالوا إنه القياس، أما ما ورد في هذا الحديث فمخصوص بهذا الرجل. ويجاب عن ذلك بأن العلة هي الإحرام فتعم.
أما حديث "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث ..." فالجواب أن تكفينه في ثوبه وعدم تحنيطه وتخمير رأسه وما شابه ذلك هومن أعمال الأحياء وليس من أعمال الميت، ومثله الغسل والصلاة والتكفين وما شابه ذلك.
وفيه أن من شرع في طاعة ثم مات، يرجى من فضل الله له أن يكتب في الآخرة من أهل تلك الطاعة.
(لا تحنطوه) أي لا تمسوه حنوطا. وهي إخلاط من طيب تكون للأموات. وفائدته إكرام الميت وتحسين رائحته.
(ولا تخمروا رأسه) دليل على أن المحرم الحي لا يخمر رأسه. أما الوجه، فقال أبوحنيفة ومالك : هو كالرأس. وقال الشافعي وأحمد : لا بأس للمحرم أن يخمر وجهه، إنما نهي عن النقاب للنساء.
(فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا) على هيئته التي مات عليها.
--
515 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أَنَّهَا كَانَت تَقول: " لما أَرَادوا غسل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالُوا: وَالله مَا نَدْرِي أنجرد رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ثِيَابه كَمَا نجرد مَوتَانا أم نغسله وَعَلِيهِ ثِيَابه؟ فَلَمَّا اخْتلفُوا ألْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِم النّوم حَتَّى مَا مِنْهُم رجل إِلَّا وذقنه فِي صَدره ثمَّ كَلمهمْ مُكَلم من نَاحيَة الْبَيْت لَا يَدْرُونَ [من هُوَ] : أَن اغسلوا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَعَلِيهِ ثِيَابه. فَقَامُوا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فغسلوه وَعَلِيهِ قَمِيصه، يصبون المَاء فَوق الْقَمِيص ويدلكونه بالقميص دون أَيْديهم. وَكَانَت عَائِشَة تَقول: لَواسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا غسله إِلَّا نساؤه " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، وَأَبُودَاوُد وَهَذَا لَفظه، (وَرُوَاته ثِقَات) ، وَمِنْهُم " ابْن إِسْحَاق " وَهُو الإِمَام الصدوق.
إسناد الحديث حسن، لأن فيه ابن إسحاق، وهو صدوق يدلس –مع إمامته في المغازي والسير- وقد صرح هنا بالتحديث.
ما يستفاد من الحديث :
1. دليل على ما اتفق عليه الفقهاء من جواز غسل الزوجة زوجها.
2. غسل الميت وحمله والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية.
3. الواجب في الغسل مرة تعم البدن، وإن دعت الحاجة إلى الزيادة فيزاد، ويسن أن يكون وترا.
--
516 - عَن أم عَطِيَّة قَالَت: " دخل علينا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَنحن نغسل ابْنَته فَقَالَ: اغسلنها ثَلَاثًا أَوخمْسا - أَوأَكثر من ذَلِك، إِن رأيتن ذَلِك - بِمَاء وَسدر واجعلن فِي الْآخِرَة كافوراً - أَوشَيْئا من كافور - فَإِذا فرغتن فأذنني. فَلَمَّا فَرغْنَا آذناه فَألْقَى إِلَيْنَا حقوه فَقَالَ: أشعرنها إِيَّاه " " وَفِي لفظ، " ابدأن بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَعند البُخَارِيّ: " فضفرنا شعرهَا ثَلَاثَة قُرُون فألقيناها خلفهَا "، وَعِنْده: " ثَلَاثَة أَوخَمْسَة أَوسَبْعَة أَوأَكثر من ذَلِك ".
(أم عطية) هي نسيبةبنت الحارث وقيل كعب الأنصارية .
(ونحن نغسل ابنته) هي أم كلثوم عند أهل السير، ولكن الصواب –كما قال الحافظ- هي زينب.
(إن رأيتن ذلكَ) أي : إن رأيتن المصلحة في ذلك، وليس بالتشهي. وقوله (إن رأيتن ذلكِ) بكسر الكاف خطاب للمؤنث أي لأم عطية
(كافورا – أوقال : شيئا من كافور) شك من الراوي. وفائدة الكافور : التطييب والإكرام وتبريد البدن وتصليبه ومنع إسراع الفساد إليه.
فيه استحباب السدر في غسل الميت وشيء من الكافور في الغسلة الأخيرة. وعند أبي حنيفة ومن وافقه لا يستحب الكافور، وقول الجمهور أرجح.
(حقوه) بفتح المهملة ويجوز كسرها هوالإزار. وأصل الحقومعقد الإزار، سمي به الإزار مجازا لأنه يشد فيه.
(أشعرنها إياه) يجعلن إزاره ﷺ شعارا لها ويلففنها به، والشعار : ما يلي الجسد من الثياب. ويسمى شعارا لأنه يلي شعر الجسد. والحكمة فيه للتبريك لها به. وترجم به البخاري بــ"هل تكفن المرأة في إزار الرجل؟"، وأشار بقوله "هل" إلى تردده في المسألة وإلى أنه يحتمل الخصوصية كما ذهب إليه طائفة من العلماء.
(ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) استحباب تقديم الميامن. واستحباب الوضوء ويكون في أول الغسل، خلافا لأبي حنيفة فقال أنه لا يستحب.
(فضفرنا شعرها ثلاثة قرون ...) فيه استحباب المشط والضفر. والقرون الثلاثة : في ناصيتها ضفيرة وفي قرنيها ضفيرتان، أي في جانبي رأسها. وهذا الذي ذهب إليه الجمهور خلافا للأوزاعي والكوفيين –الحنفية-.
فيه أن النساء أولى بغسل المرأة من زوجها كما هوالاصح عند الشافعية. وفيه احتمال أن زوجها كان غائبا أوأنه فوض الغسل إليهن.
مسألة : هل هذا الوضوء حقيقة، حيث يعاد غسل الأعضاء حين الغسل، أم أنه جزء من الغسل وكان البدء بهذه الأعضاء تشريفا لها؟
الاحتمال الثاني أظهر وأقرب كما ذكره الحافظ.
مسألة : هل يجب الغسل على من غسل الميت؟
ذهب الجمهور إلى أنه يستحب وكذلك الوضوء، لأن هذا مقام تعليم من النبي ﷺ لأم عطية ومن معها ولم يأمرهن الغسل، ولو كان واجبا لأمرهن بذلك. وذهب أحمد إلى وجوبه مستدلا بحديث أبي هريرة مرفوعا : "من غسل ميتا فليغتسل"، وهو حديث ضعيف.
- بَاب فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت
517 – وَعَن أَسمَاء بنت عُمَيْس " أَن فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام أوصت أَن يغسلهَا زَوجهَا عَلّي وَأَسْمَاء فغسلاها " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
هذا الأثر إسناده حسن كما قاله الحافظ في (التلخيص) وأخرجه -غير الدارقطني- البيهقي في (الصغرى) وفي (الكبرى)
(أن فاطمة عليها السلام) لا بأس أن يذكر (عليه السلام) لأهل البيت تبعا للنبي ﷺ، ولكن ينبغي الاحتراز منه –لا سيما عند المتأخرين- لما كان شعارا للشيعة والروافض وخشية الاشتباه بهم.
أي : أن زوجها –علي بن أبي طالب رضي الله عنه- غسلها ومعه أسماء بنت عميس ( وهي زوجة جعفر بن أبي طالب، هاجرت معه إلى الحبشة. ولما استشهد جعفر في مؤتة، تزوجها أبوبكر في الحنين، ولما توفي أبوبكر تزوجها علي، رضي الله عنهم جميعا)، واحتاجت إلى أن تساعدها ابنتها في غسل فاطمة.
دليل على جواز غسل الزوج زوجته الميتة وهو قول الجمهور، وخالف ذلك الشعبي والثوري وأبو حنيفة، واحتجوا ببلاغ عن عمر أورده محمد بن الحسن في (الآثار) قال : "نحن أحق بها إذا كانت حية، فإذا ماتت فأنتم أحق بها." وهي لا تقاوم الأدلة التي تدل على الجواز، ومنها هذا الأثر عن أسماء بنت عميس.
بَاب فِي الْكَفَن
وهو لباس الميت.
518 – عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " كفن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض سحُولِيَّة من كُرْسُف لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة " مُتَّفق عَلَيْهِ.
(ثلاثة أثواب) المراد بالأثواب هو اللفائف، والقماش عموما يقال له ثوب. أما الثوب المشتهر عندنا فهو القميص بالعربية. وفي (الطبقات) لابن سعد عن الشعبي : إزار ورداء ولفافة.
(سحولية) بفتح السين وضمها، والضم أشهر، نسبة إلى (سحول) مدينة باليمن تعمل بها ثياب بيض نقية من قطن.
(كرسف) أي : قطن.
الحديث يدل على أنه لم يكن في الثياب الثلاثة عمامة ولا قميص، وهو المستحب عند الجمهور. وقال مالك وأبو حنيفة بل يستحب أن يكون فيها قميص وعمامة، وتَأَوَّلَا هذا الحديث على أنها ثلاثة أثواب زائدة عليها القميص والعمامة.
وفي الحديث وجوب تكفين الميت، وهو إجماع، ويكون من مال الميت، فإن لم يكن فعلى من تلزمه نفقته، فإن لم يكن فمن بيت مال المسلمين، فإن لم يكن فمن أهل اليسار والاستطاعة من المسلمين.
الواجب في الكفن واحد يستر جميع البدن، والسنة للرجال ثلاثة، وللمرأة خمسة.
ويستحب التكفين في البياض بالإجماع، ويكره المصبوغ والزينة، ويحرم الحرير على الرجل ويكره للمرأة.
--
519 – وَعَن ابْن عمر " أَن عبد الله بن أُبَيّ لما توفّي جَاءَ ابْنه إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصك أكَفنهُ فِيهِ وصل عَلَيْهِ واستغفر لَهُ، فَأعْطَاهُ قَمِيصه " مُتَّفق عَلَيْهِ أَيْضا.
(عبد الله بن أبي) ابن سلول، رأس المنافقين. وابنه عبد الله وكان رجلا صالحا.
وهو يكتب بالألف : عبد الله بن أبي ابن سلول، ويعرب ابن سلول بإعراب عبد الله، لأن كلا من (بن أبي) و(ابن سلول) وصف له، فأبي أبوه وسلول أمه، فنسب إلى أبويه جميعا.
(أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له) لعله يرجو بذلك نجاته.
(فأعطاه ﷺ قميصه) لعل ذلك تأليفا لقلوب تابعيه، وجبرا لخاطر ابنه، أو مكافأة لما كان فعله معه ﷺ هذا الرجل حتى لم يبق له يد عنده ﷺ.
لأن عبد الله بن أبي بن سلول كان كسا العباس رضي الله عنه حين أسر قميصا
فيه جواز التبرك بآثار الرسول ﷺ إذا ثبتت وهو بإجماع العلماء.
--
520 – وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا من خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُودَاوُد، وَابْن مَاجَه، (وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ) .
(البسوا) بفتح الباء، من لبِس يلبَس لُبْساً. وليس من لبَس يلبِس لَبْسا، فإنه مثل خلَط يخلِط خلطا وزنا ومعنى.
(من ثيابكم) (من) تبعيضية أو بيانية.
(البياض) ذات البياض.
(فإنها من خير ثيابكم) لما فيها من :
1. النقاء والنظافة.
2. البقاء على الفطرة وأصل الخلقة.
3. لظهور الدنس فيها فيسرع الإنسان إلى تنظيفها.
(وكفنوا فيها موتاكم) الأمر للاستحباب وعليه الإجماع.
(والترمذي وصححه) قال الترمذي : حسن صحيح.
وعن أبي بكر أن التكفين يكون في الثياب التي يصلي فيها وهو اختيار ابن المبارك.
521 - وَعَن جَابر قَالَ، قَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه " رَوَاهُ مُسلم.
(كفنه) بالفتح والسكون في الفاء، والفتح أصوب وأظهر وأقرب إلى لفظ الحديث كما قاله القاضي عياض.
زاد الحارث بن أبي أسامة –كما ذكره الحافظ- : "فإنهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم".
والأمر بإحسان الكفن في هذا الحديث للاستحباب، ومعناه يتضمن ثلاثة أشياء :
1. نظافته ونقاؤه
2. كثافته وستره
3. توسطه بأن يكون من جنس لباسه في الحياة غالبا، لا أفخر منه ولا أحقر.
فليس المراد به السرف ولا المغالاة ولا النفاسة.
وسبب الحديث أن رسول الله ﷺ خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قُبض وكُفن في غير طائل، أي : كفن في كفن حقير غير كامل للستر، وقبر ليلا، فزجر النبي ﷺ أن يقبر الرجل في الليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، فقال : "إذا كفن أحدكم ..." الحديث.
وفي ذلك النهي عن الدفن بالليل، وهو على الكراهة عند الحسن، أما عند الجمهور فهو محمول على ترك الصلاة أو قلة المصلين أو إساءة الكفن، وإلا فلا بأس به ولا كراهة.
مسألة : الإسراع في تجهيز الميت (غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه)
والإسراع يكون في غير موت الفجأة.
أما إن مات فجأة من غير تقدم سبب من مرض وغيره، كالمصعوق والحريق أومن مات بهدم أو نحو ذلك أو شك في موته كالمغمى عليه فينتظر من الغدوة إلى الليل، وقيل أكثر ما لم يخش فساده. وذلك ليتأكد من موته، وكذلك ليحضره أولياؤه وأقرباؤه أو لتكثير عدد المصلين عليه، وذلك إن كانوا قريبين أو لم يشق على الذين قد حضروا.
ومن العلامات الدالة على تأكد الموت : غيبوبة سواد العينين، ميل الأنف، انخلاع الكفين عن الذراع، استرخاء عصبة اليد كأنها منفصلة في جلدته عن العظم، امتداد جلدة الوجه، وتغير الرائحة.
قال أحمد: أكره موت الفوات.
لعله لما في ذلك من فوات الاستعداد للمعاد. وفي الحديث : "موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر."
فإذا حصل موت الفجأة فينبغي لأولاده أن يستدركوا له أعمال البر ما أمكنهم مما تقبل النيابة.
مسألة : يكره ترك الميت وحده، بل ينبغي أن يبيت معه أهله، قيل : لأن الشيطان يتلاعب به إذا ترك وحده.
وغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه , كل ذلك فرض كفاية , أي: على من علم به وأمكنه, وإن لم يعلم به إلا واحد تعين عليه.
والغسل للميت المسلم يكون مرة بالماء على الوجوب إذا كان ممكنا, وإن كان تعذر لفقد الماء أو خشي من استعماله تقطع الميت, وما شابه ذلك فيُيمم.
ويجب الغسل بالماء ويستحب أن يكون ماء سدر ويكفن -كما سبق- بثوب واحد إجماعا, وبمزيد منه استحبابا. وإن كان محرما فيكفن في ثوبين أي في الإزار والرداء.
ويكره لغاسله أخذ أجرة على عمله إلا أن يكون محتاجا فيعطى من بيت المال, فإن تعذر إعطاؤه من بيت المال أعطي بقدر عمله. وأما الصلاة عليه فيحرم أخذ الأجرة عليها, والأفضل اختيار ثقة عارف بأحكام الغسل, أمين في ستر ما يراه من معايب المحتملة من تغسيله. وحمله وغسله وكل ما سبق هو فرض كفاية. أما اتباعه إلى قبره فهو سنة.
وأولى الناس بغسله وصيه الذي أوصى أن يغسله إذا كان عدلا, وبعد ذلك أبوه لأنه أشفق الناس إليه, ثم جده, ثم الأقرب فالأقرب من عصباته: فالابن, ثم ابن الابن ثم الأخ الشقيق, ثم الأخ لأب, وهكذا ثم ذوو الأرحام كما في الميراث, ثم الأجانب. والرجال ولوأجنبي أولى من زوجته, كذلك في النساء الأجنبية أولى من الزوج خروجا من الخلاف. وقال النووي وغيره: إنما هي رواية عن أحمد. وأما أكثر الحنابلة فلم يذكروا هذه الرواية عنه, واعتمدوا في متونهم كما في الروض أن الأجنبي أولى من الزوجة, والأجنبية أولى من الزوج, ولكن لواحد من الزوجين غسل صاحبه ما دام مسلمين. وأما ذمية فليس أهلا للغسل. وآثار النكاح باقية كعدة الوفاة وكالإرث, فلا يصح قول الحنفية في منع الغسل بزوال الزوجية, وقول بعضهم إنه القياس- أي المنع- يقابله قياس غسلها زوجها على غسله لا على غسلها له المجمع عليه. والمطلقة الرجعية أيضا تغسل زوجها لأنها زوجة فيما عدا القسم.
وإذا مات رجل بين نسوة وليس فيهن زوجه له أو بالعكس يكتفى بالتيمم. وأما إذا مات الصغير ذكرا كان أو أنثى وهو دون سبع سنين فإنه لا عورة له فيغسله من يسر من رجل أو امرأة لأن إبراهيم عليه السلام ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسلته النساء كما ذكر ابن المنذر. وذكر ابن كثير أن عليا رضي الله عنه هو الذي غسله { رواه أحمد وغيره} كما ذكر صاحب حاشية الروض المربع العلامة الشيخ عبد الرحمن بن القاسم. والأول أي كونه غسلته هو كلام صاحب الروض-فالله أعلم-.
وأما الكافر فلا يغسله المسلم ولا يصلى عليه, ويكتفي بمواراته إذا عدم من يواريه من أقاربه الكفار.
وعند الغسل يستر عورته أي ما بين السرة والركبة ويجرد باقي جسده ندبا لأنه أبلغ في تطهيره. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فغسّل في قميص لأن فضالاته طاهرة فلا يخشى تنجّس قميصه بها ولعظم حرمته صلى الله عليه وسلم.
ويسن أيضا ستر الميت حال الغسل عن العيون لانه صار جميعه عورة ولأنه ربما كان به عيب يستره في حياته أو لأنه تظهر عورته. ويكره النظر إلى الميت إلا لحاجة. وستره عن العيون ,أي: ستره في خيمة وما شابهها من جميع جهته حتى من جهة السماء,ولا ينظر إليه في غير حاجة حتى الغاسل لا ينظر إلا إلى ما لا بد منه غيرَ العورة, فإنها يحرم مطلقا.وأما من لا معونة له في الغسل فيكره له حضوره إلا للضرورة.
ثم يرفع رأس الميت -إلا إذا كان أنثى حاملا فلا يرفع رأسها- إلى قرب جلوسه بحيث يكون كالمحتضن في صدر غيره وكل ذلك برفق ولا يصل إلى حال الجلوس.
ثم يعصر بطنه برفق ليخرج ما يحتاج إلى الخروج من بطنه ولا يخرج بعد ذلك. ويكون هذا المسح برفق. ويكون هناك في هذه الحال بخور لئلا يتأذى برائحة الخارج, وحينئذ يكثر من صب الماء ليدفع ما يخرج بالعصر ولا تظهر رائحته فيتأذى بها.
ثم يلف الغاسل على يده خرقة خشنة أو يدخل يده في كيس لئلا يمس العورة, فيلجّيه أي يمسح فرجه بها.ولا يحل مس عورة من له سبع سنين بغير حائل. ويستحب أن لا يمس سائر جسده إلا بخرقة, لفعل علي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم. فتكون عند الغاسل خرقتان خرقة للسبيلين وأخرى لبقية بدنه استحبابا.
ثم يوضئه استحبابا كوضوء الصلاة دون مضمضة واستنشاق إلا أنه يدخل إصبعيه إبهامه وسبابته مبلولتين بخرقة مبلولة من ماء بين شفتيه, فيمسح أسنانه ويدخلهما في منخريه فينظفهما بعد غسل كفي الميت ولا يدخل الماء في أنفه وفمه.
ثم ينوي غسله ويسمي وجوبا ويغسل برغوة السدر المضروب رأسَه ولحيته فقط,. ثم يغسل شقه الأيمن ثم شقه الأيسر,ثم يغسله كله يفيض الماء على جميع بدنه يفعل ذلك كله ثلاثا إلا الوضوء ففي المرة الأولى يمر في كل مرة إلى الثلاث يدَه إلى بطنه, فإن لم ينق بالثلاث زيد حتى ينقى ولو جاوز السبعة, فالإيتار مأمور به والثلاث ندب, فإن يحصل الإنقاء بالثلاث لم تشرع الرابع وإلا زِيد حتى يحصل الإنقاع ويندب كونه وترا. فإذا لم يحصل الإنقاء بالسبع لم يزد عليه, وقيل يزيد على السبع -الله أعلم-. ويكره يكتصر على المرة في غسله لأنه صلى الله عليه وسلم قال "يغسلنها ثلاثا" ولأنه لا يحصل به كمال النظافة ولكن يجزئ. وكذلك لو نوى وسمى فغمسه في ماء مرة واحدة أجزأه كالحي, لكن يجوز لو غمسه في ماء او تركه تحت ميزاب ونحوه وحضر من كان يصلح لغسله فنوى وسمى وعمّمه بالماء لكفى. فإذا وجدت المرأة بين الرجال أو عكسه وأمكن أن يفعل كهذا فُعل بهم وإلا حصل التيمم.
ثم يكون في الغسلة الأخيرة ندبا كافور أي يضعه في الماء بحيث لا يتغير الماء به. جاء في الحديث: فإذا كان في آخر غسلة من الثالثة أو غيرها فاجعلي ماء فيه شيء من كافور أو شيء من سدر ثم أفرغيه عليها وابدئي برأسها حتى يبلغ رجليها". فيكون في الغسلة الأخيرة كافور وسدر لأنه يقوي الجسد ويطيبه ويبرده ويطول عنه الهوام برائحته. والماء الحار والعشنان الذي هو كالصابون يستعمل كل ذلك أذا احتيج إليه.
وإذا طالت أظافره أو شاربه تقص ندبا, وعنه رحمه الله يعني الإمام أحمد: لا يؤخذ منه شيء لا شعره ولا ظفره لكون أجزائه محترمة. وما أخذ –على القول بأخذه الذي هو المذهب- يجعل معه كعضو ساقط, كما لوسقط منه عضو فيجعل معه وجوبا من شعر ونحوه حتى لو كانت أعضاؤه مقطعة جمع بعضها إلى بعض حتى لا يتبين تشويهه.
وهل يسرَّح شعره؟؟ قيل يكره ذلك لما فيه من تقطيع الشعر بدون حاجة إليه, وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة والحنابلة. وأما الشافعي رحمه الله فقال: يسرح تسريحا خفيفا, واستحبه بعض الحنابلة. والتسريح أي التمشيط .وفي مسلم: "مشطناها ثلاثة قرون" لكن أجاب أحمد رحمه الله أن معناه "ظفرناه".
ثم بعد هذا الوصل ينشَّف الميت بثوب لئلا يبتل كفنه بذلك, ويظَّفر ندبا شعر الأنثى ثلاثة قرون في ثلاثة ظفائر -والقرن هو الخصلة من الشعر, والظفر هو الفتل- ويسدل وراءها.
وإن خرج من الميت شيء بعد غسله سبع غسلات حُشي المحل بقطن ليمنع الخارج إذا احتيج إلى ذلك وإلا يكتفى بلجمه بالقطن. فإن لم يستمسك بالقطن فبغيره كطين خالص لأن فيه قوة يمنع الخارج, ثم يغسل المحل المتنجس بالخارج, ويُوضَّأ الميت كالجنب إذا أحدث بعد الغسل لتكون طهارته كاملة, فإن خرج منه شيء بعد التكفين لم يعد غسله.
والمحرم بالحج أوالعمرة كالحي يغسل بماء وسدر, لكنه لا يغسل بالكافور لأنه طيِّب, ولا يوضع عليه طيب مطلقا إلا إذا كان حصل التحلل الأول. ولا يلبس الميت المحرم الذكر المخيط من قميص ونحوه ولا يغطَّى رأسه, ويغطَّى بقية جسده من وجه ورجلين وسائر البدن كالمحرم الحي. ويُكفَّن في ثوبين ويجوز زيادة على الثوبين وأما المرأة المحرمة فلا يغطَّى وجهها بل تخمَّر كما في حياتها ولا يقرَّب منها طيب كأنها على حياتها محرمة.
وأما المعتدة التي ماتت في العدة –معتدة وفاة- فإنها يسقط إحدادها بموتها, فإذا كانت تُغسَّل فلا بأس أن يوضع عليها الطيب لأن منعها من الطيب في الحياة من أجل الإحداد لأنه يدعوإلى نكاحها وذلك لا يستمر بعد موتها وإن كان على الميت بسبب جراحه لصوقٌ -يعني لصقة أو جبيرة- فتزال إن لم يسقط من جسده شيء بإزالته, وأما إزالتها بدون خشية ضرر فلازمةٌ من أجل غسل ما يحصل به تعميم البدن بالغسل.
وهذا كله يستثنى منه شهيد المعركة فإنه لا يُغسل أي المقتول لأجل الكفار يكره تغسيله لأن الغسل سيزيل أثر العبادة, وقيل بالتحريم وهو أرجح وهو قول الجمهور . وكذلك المقتول ظلما في غير الحرب لا يُغسل عند الجمهور, وقيل يغسل لأن رتبته دون رتبة شهيد المعركة. واستدل القائلون بتغسيله –كالموفَّق وغيره- على أنه يجوز تغسيله -أي المقتول ظلما- بقصة عمر وعلي رضي الله عنهما. وأما شهيد المعركة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر في شهداء أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسّلوا.
والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه، وتستحب تسميته. ومن تعذر غسله يتيمم كما سبق، ويجب على الغاسل ستر ما رأى إن لم يكم حسنا، ويجب تكفين الميت من ماله مقدما على الدين، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.
ويستحب تكفين الرجل في ثلاث ثياب لفائف بيض تُجَمَّر (أي : تُبَخَّر) بعد رشها بماء ورد ونحوه. ثم تبسط بعضها فوق بعض، أوسعها وأحسنها أعلاها. ويجعل الحنوط فيما بينها، أي يُذَرُّ فيما تلك اللفائف. ثم يوضع الميت عليها مستلقيا. ويجعل من الحنوط في قطن بين إليتيه ليرد ما يخرج عند تحريكه. ويشد فوقها حرقة مشقوقة الطرف كالسراويل بلا أمام، تجمع إليتيه موضع بوله، ويجعل الباقي في القطن المحنط على منافذ وجهه، أي : عينيه ومنخريه وعلى مواضع سجوده. وإن طيب الميت كله فحسن. ثم يرد طرف اللفاف العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن وطرفها الآخرفوقه، ثم يفعل بالثاني والثالث كذلك، ويجعل أكثر الفاضل من كفنه على رأسه لشرفه، ويعيد الفاضل على وجهه ورجليه بعد جمعه ليصل الكفن كالكيس فلا ينتشر عند حمله ووضعه ثم يعقدها. وتحل في القبر.
وإذا كفن في قميص وإزار ولفاف فجاز. وذلك لأنه ﷺ ألبس على عبد الله بن أبي قميصه لما مات، مكافأة له لما كان لبس العباس حين أسر.
وتكفن المرأة في خمسة أثواب بيض من قطن : إزار وخمار وقميص ولفافتين، والواجب في كل ذلك ما يستر الجميع (جميع البدن).
- بَاب فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت
522 – عَن جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجمع بَين الرجلَيْن من قَتْلَى أحد فِي ثوب وَاحِد، يَقُول: أَيهمْ أَكثر أخذا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذا أُشير لَهُ إِلَى أَحدهمَا قدمه فِي اللَّحْد، وَقَالَ: أَنا شَهِيد عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْم الْقِيَامَة. وَأمر بدفنهم فِي دِمَائِهِمْ فَلم يغسلوا وَلم يصل عَلَيْهِم " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
فيه جواز تكفين الرجلين في كفن واحد للضرورة، إما بجمعهما فيه أو بقطعه بينهما.
وفيه جواز دفن اثنين في لحد واستحباب تقديم أفضلهما في داخله.
وفيه أن شاهد المعركة لا يصلى عليه، خلافا للحنفية فقالوا بأن المثبت مقدم على النافي، وهذا لا يسلم لأن النافي إذا كان راويه حافظا يترجح على المثبت إذا كان راويه ضعيفا، مع أن فيه احتمال أنه بمعنى الدعاء، أو أنها في قصة حمزة، أو أن الصلاة تكون في وقت آخر غير وقت الوفاة.
--
523 – وَعَن عقبَة بن عَامر: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج يَوْمًا فَصَلى عَلَى أهل أحد صلَاته عَلَى الْمَيِّت ثمَّ انْصَرف إِلَى الْمِنْبَر فَقَالَ: إِنِّي فرط لكم وَأَنا شَهِيد عَلَيْكُم " الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ. وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ. وَله: " صَلَّى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى قَتْلَى أحد بعد ثَمَانِي سِنِين كالمودِّع للأحياء والأموات ".
كانت أحد في شوال سنة 3 من الهجرة، ووفاة النبي كان في الربيع الأول سنة 11 هـ، فقوله 8 سنين فيه تجوز بالجبر والكسر، وإلا فهي سبع سنين ونصف تقريبا.
وفيه مشروعية الصلاة على الشهداء كما ذهب إليه الحنفية، وقد سبق الجواب عليه. فهي تحمل على معنى دعاء صلاة الميت.
--
524 – وَعَن جَابر: " أَن رجلا من أسلم جَاءَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاعترف بِالزِّنَا فَأَعْرض عَنهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى شهد عَلَى نَفسه أَربع مَرَّات، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أبك جُنُون؟ ! قَالَ: لَا! قَالَ: آحصنت؟ قَالَ: نعم. فَأمر برجمه بالمصلى، فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة فر فَأدْرك، فرُجم حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيرا، وَصَلى عَلَيْهِ " هَكَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر قَالَ: (وَلم يقل يُونُس وَابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ: " فَصَلى عَلَيْهِ ") . وَرَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُودَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَقَالُوا: " وَلم يصل عَلَيْهِ " (وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَهُوالصَّوَاب - وَالصَّحِيح عَن معمر - كَرِوَايَة خَبره عَن الزُّهْرِيّ) وَالله أعلم.
قد روى هذا الحديث 8 أنفس عن عبد الرزاق، فلم يذكروا (وصلى عليه). وسئل أبوعبد الله : هل قوله (فصلى عليه) يصح أم لا؟، فقال : رواه معمر، قيل له : هل رواه غير معمر؟ قال : لا. وهذا ورد في بعض الروايات عن صحيح البخاري.
وقد اعترض عليه في جزمه بأن معمر روى هذه الزيادة، بأن المنفرد بها هو محمود بن غيلان عن عبد الرزاق. فلعله قويت عنده رواية محمود بالشواهد.
وقد جمع بين الروايتين بأنه لم يصل عليه يوم رجم، بل في اليوم الثاني.
وقوله : رواه يونس ومعمر وابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر، يريد أنهم خالفوا عقيلا في جعل أصل الحديث من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة. وقول ابن شهاب : أخبرني من سمع جابر بن عبد الله : كنت فيمن رجمه بالمصلى، فهؤلاء جعلوا الحديث كله عن جابر. ورواية معمر وصله البخاري في الحدود، وكذا رواية يونس، أما ابن جريج فوصلها حيث قال عقب رواية معمر : لم يقل يونس وابن جريج : فصلى عليه.
(من أسلم) أي من قبيلة أسلم، وقد فسر في حديث جابر بن سمرة عند مسلم بأنه : ماعز بن مالك الأسلمي، وأنه رجل قصير أعضل ليس عليه رداء، وفي رواية : ذو عضلات
العضلة : مجتمع من اللحم في الساق والذراع وكل اللحوم المستديرة في البدن.
(أذلقته الحجارة) أقلقته وأجهدته وأصابته بحدها.
يستفاد من الحديث :
1. منقبة عظيمة لماعز بن مالك رضي الله عنه حيث استمر على إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي التراجع عن الإقرار بما يزهق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك وقوي عليها، وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة.
2. وفيه أن من وقع في مثل هذا الشيء أن يتوب إلى الله ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد، ومن اطلع عليه يستره بما ذكر ولا يفضحه ولا يرفعه للإمام، إلا فيمن كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا بها، كما قاله ابن العربي.
3. فيه التثبت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته.
4. فيه مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام في المسجد، والتصريح بما يستحيا من التلفظ عند الحاجة الملجئة إليه.
5. فيه إعراض الإمام عمن أقر بأمر محتمل لإقامة الحد، لاحتمال أنه يفسره بما لا يوجب حدا أو أنه يرجع.
6. فيه أن إقرار المجنون لاغ. والتعريض للمقر بأن يرجع، وإذا رجع قبل.
7. فيه استحباب المبادرة إلى التوبة لمن وقع في معصية، لا يخبر بها أحدا ويستتر بستر الله. وإذا اتفق أن يخبر أحدا، يستحب له أن يستر أخاه ويحثه على التوبة وعدم إخبار الآخر.
8. فيه اشتراط تقرير الإقرار بالزنا أربعا. وجواز تلقين المقر بما يدفع عنه الحد. وأن الحد لا يجب إلا بالإقرار الصريح.
9. فيه أن المقر بالزنا يترك، إن رجع فذاك، وإلا اتبع فرجم.
10. فيه أن المصلى إذا لم يكن وقفا لا يثبت له حكم المسجد.
11. فيه طلب الستر لحال ذلك الرجل واستبعاد أن يلح عاقل بالاعتراف بما يؤدي إلى هلاكه.
اختلاف العلماء :
قال مالك : يأمر الإمام بالرجم ولا يتولاه بنفسه ويخلي بينه وبين أهله فيغسلونه ويصلون عليه ولا يصلي عليه هو، ردعا لأهل المعاصي.
وقال الجمهور وهو رواية عن مالك : أنه يجوز للإمام أن يصلي عليه.
والمشهور عن مالك يكره للإمام وأهل الفضل الصلاة على المرجوم، وهو قول أحمد. ويصلي عليه غير الإمام وأهل الفضل.
وعن الشافعي لا يكره ذلك، وهو قول الجمهور. وكذلك على الفساق والمقتولين في المحاربة والحدود وغيرهم.
-
525- وَرَوَى مُسلم فِي حَدِيث الغامدية من رِوَايَة بُرَيْدَة: " ثمَّ أَمر بهَا فَصَلى عَلَيْهَا ودفنت ".
(الغامدية) امرأة من غامد، وهو بطن من جهينة.
أجاب المالكية على ما ورد من الصلاة على المرجوم بأنه ضعيف وأن معظم الرواة لم يرووه، أو تأولوه بالدعاء له أو إذنه لأصحابه أن يصلوا عليه. وهذه التأويلات إنما يصار إليها عند الضرورة وليست موجودة هنا، فالأولى الأخذ بالظاهر.
--
526 – وَعَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: " أُتي النَّبِي بِرَجُل قتل نَفسه بمشاقص فَلم يصل عَلَيْهِ " رَوَاهُ مُسلم.
(مشاقص) سهام عراض، واحدها مشقص.
هذا الحديث دليل لما ذهب إليه طائفة من العلماء أن قاتل نفسه لا يصلى عليه مطلقا، وذهب الجمهور أنه يصلى عليه. وأجابوا عن هذا الحديث أنه ﷺ لم يصل عليه زجرا لما ارتكبه من المعاصي، وصلى عليه الصحابة. وهذا مثل تركه الصلاة في أول الأمر على من مات وعليه دين، زجرا لهم عن التساهل في الاستدانة وعن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه، فقال : "صلوا على صاحبكم. فمذهب الجمهور الصلاة على كل مسلم ولوكان محدودا أومرجوما أوقاتل نفسه. وعن مالك أن الإمام يجتني الصلاة على المقتول في الحد، وكذلك أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجرا لهم.
كيفية صلاة الجنازة ودفن الميت وما يتعلق بهما :
الصلاة على الميت من فروض الكفايات وتسن جماعة وتسقط إذا قام بها ولو مكلف واحد، فإن دفنوه قبلها أثموا إذا لم يصل عليه أحد، ويسن أن تكون الصفوف عليه ثلاثة، وكلما كثر الجمع أفضل. وفي ((مسلم)) : ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه))
ويسن أن يقوم الإمام عند صدر الذكر ووسط الأنثى، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة. وعن الإمام أحمد وفاقا للشافعي ومالك وغيرهما عند رأس الرجل، والأمر قريب لأن يقف عند أحدهما لا يقف عند الآخر.
والأولى في إمامة الصلاة على الميت وصيه العدل، فالسلطان، والأولى بوصف الرجل إلى آخر ما ذكره الفقهاء.
وذكروا أنه إذا اجتمعت الجنائز يقدم أفضلهم فأسن فأسبق، ويقرأ مع التساوي، وجمعهم بصلاة واحدة أفضل، ويجعل وسط الأنثى حذاء صدر الرجل.
وأما صفة صلاة الجنازة وهي: أن يكبر أربع تكبيرات، ويقرأ في الأولى بعد التعوذ والبسملة سورة الفاتحة سرا ولو في الليل، وبعد الثانية الصلاة على النبي كما في التشهد الآخر، وبعد التكبيرة الثالثة يدعو ويخلص الدعاء للميت ولو كان مسيئا، فإنه أحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين ولذلك قدموه بين أيديهم.
وقال الموفق: ((الأولى أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين أيضا)) ومن ضيغ الدعاء ما ذكر في الزاد ومختصر المقنع وأصله في صحيح مسلم وسيمر معنا في الدرس يمر معنا ذلك في المحرر.
ولا بأس بالإشارة بالأصبع حال الدعاء للميت. وإذا كان الميت أنثى أنث الضمير فيقول: ((اللهم اغفر له وارحمه)) أو تركه كما هو إرادة للميت بشكل عام.
والحديث في بعض الروايات وهو الحديث الآخر في باب ((الصلاة على الميت)) وهو: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا...)) أي اغفر للمسلمين والمسلمات جميعا. ويلاحظ أنه فيه ((...من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان...)) لأن الإسلام هو العبادات كلها ووجودها في حال الحياة ممكن، والإيمان الأعمال الباطنة وهو شرط في الإسلام. ويكتفى بوجود الإيمان عند الموت.
ثم إن كان الميت صغيرا قال بعد ((ومن توفيته منا)) ((اللهم الجعله ذخرا لوالديه)) أي كالتقدمة لهما بشيء نفيس يكون أمامهما مدخرا إلى وقت حاجتهما له.
((وفرطا)) أي سابقا مهيأ لمصالح والديه في الآخرة، والأصل في الفرط من يتقدم على جماعة واردة ما ليهيء لهم أسبابا في المنزلة.
((...وأجرا وشفيعا مجابا اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الحجيم))
وبعد التكبيرة الثالثة يقف قليلا ليكبر آخر الصفوف، وقيل كما في ((الروض المربع شرح الزاد)) لا يدعو.
وعنه أي الإمام أحمد: يدعو بعد الرابعة، واختاره جمع من فقهاء الحنابلة وفاقا لبقية جماعة من العلماء فيقول مثلا: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)).
وقال بعض العلماء كالشافعية وبعض الحنابلة أنه يقول هنا: ((اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله )) ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه وفاقا للإمام مالك جهرا. وهكذا جاء عن ستة من أصحاب النبي كما قال الإمام أحمد رحمه الله. وذلك لأنه ورد عن الصحابة وأيضا لأن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف. واختار القاضي أي أبو يعلى من الحنابلة قول الشافعية والحنفية وهو أن الواحدة تجزيء والمستحب تسليمتان.
والأفضل أن يكون هذا التسليم عن يمينه ويجوز أن يكون تلقاء وجهه، ويجوز أيضا أن يسلم تسليمة ثانية.
فإذا سلم الإمام الثانية تابعه المأموم، ويسن وقوفه (أي المصلي على الجنازة) مكانه حتى ترفع الجنازة من بين أيديهم.
ويرفع يديه استحبابا مع كل تكبيرة، والرفع في التكبيرة الأولى إجماع وما بعدها وقع فيها الخلاف بين أهل العلم. والواجب في صلاة الجنازة ما تقدم وهو القيام في الصلاة إذا كان قادرا، والتكبيرات الأربع قد صحت الرواية بخمس تكبيرات، وهذا من الاختلاف المباح ولكن الأولى الأربعة.
وأيضا من الواجبات الفاتحة ويتحملها الإمام عن المأموم كما سبق في صفة الصلاة عموما على الخلاف في ذلك.
وأيضا من الواجبات الصلاة على النبي.
وأيضا الدعاء للميت. ثم السلام. ويشترط لها النية، ولا يضر جهله هل الجنازة ذكر أو أنثى، فإن جهل نوى من يصلي عليه الإمام فينوي عن الصلاة في الجنازة الحاضرة.
ومن فاته شيء من التكبير استحب أن يقضيه على صفته قبل الدفن، والمقضي أول صلاة عن الخلاف السابق، فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة ثم راعى بقية التكبيرات ترتيب نفسه لا ما يقوله إمامه.
وعنه يقضيه على صفته مكا تقدم في أحكام مسبوق، وإن خشي رفع الجنازة تابع التكبير حتى تتم أربع تكبيرات من غير ذكر ولا دعاء، وإن سلم مع الإمام ولم يقض التكبير فلا بأس، ومن فاتته الصلاة على الميت صلى على القبر إلى شهر من دفنه. ويصلي على الغائب عن البلد بالنية إلى شهر. وبعض العلماء كما قال في ((الفروع)) لابن مفلح:((بل يؤقت في ذلك وقت، وقيل: سنة، وقيل: ما لم يَبل))
ولا يسن أن يصلي الإمام الأعظم ولا إمام كل قرية وهو واليها في القضاء على من كتم شيئا ممن ظلمه وهو الغال أو الخائن، ولا على قاتل نفسه. وقد صح في ((مسلم)): ((عن النبي أنهم جاؤوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه)) مشاقص: النصب العريض أو سهم فيه نصب. واختار المجد بن تيمية وغيره أنه لا يصلى على كل من مات على معصيته ظاهرة بلا توبة، وذهب الجمهور إلى أنه يصلي على الفاسق وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الصلاة على الغال وقاتل نفسه زجرا للناس. وهذا رواية عن الإمام أحمد أيضا.
ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إن أمن تلويثه، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الجنائز في المسجد، وإنما كان يصلي خارجه، وربما صلى عليها فيه، وكلاهما جائز والأفضل خارجه، كذا قال الإمام ابن القيم في ((زاد المعاد)).
وكره أبو حنيفة ومالك الصلاة على الميت في المسجد. ولا ينبغي القول بالكراهة ولكنه جائز وإن كانت الصلاة عليها خارجه أفضل كما سبق.
وللمصلي فضل عظيم في الصلاة على الجنازة، له قيراط وهو أمر معلوم عند الله.
وذكر ابن القيم أنه رأى لابن عقيل أن القراط نصف سدس الدرهم.
وقال صلى الله عليه وسلم : من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل : وما القيراطان؟، قال صلى الله عليه وسلم : مثل الجبلين العظيمين.
فإذا انتهى تمام دفنها فله قيراط آخر بشرط أن لا يفارقها من الصلاة حتى تدفن.
ويسن التربيع في حمله بأن يحملوا بجوانب السرير كلها.
أي : تُشيّع الجنازة من أهلها ثم تحملها بأكانها الأربعة ثم يدخلها في القبر فذلك تمام الأجر، لكن يكره إذا ازدحموا عليها.
ويسن أن يحملها أربعة يأخذ كل واحد بقائمة من قوائم السرير، والتربيع بأن يضع قائمة السرير اليسرى في المقدم على كتفه الأيمن ثم ينتقل إلى مؤخره ثم يضع قائته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة، و يباح أن يحمل كل واحد على عاتقه بين العمودين وهما قائمتا السرير.
وإن كان الميت طفلا فلا بأس بحمله على الأيدي ويستحب بحمله على النعش، وإن كان امرأة يستحب تغطية نعشها لأنه أستر لها، ويكره تغطيته بغير الأبيض.
لا بأس بحمله على الدابة بغرض صحيح كبعد القبر.
ويسن الإسراع دون الخبب -والخبب السرعة- فيكون الإسراع فوق المشي المعتاد، ولا يبادر في ذلك خشية الأذى، حتى لا يمخِّضها مخضا فلا يؤذي متَّبِعها، فلا يخرج عن المشي الذي يخالف المصلحة بل يكون حسب المصلحة
وإن خيف من الإسراع مشى الهوينة، فلا ينبغي السرعة ولا البطؤ بل يكون عليهم السكينة
ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة ولا بغيرها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ويسن كون المشاة أمامها عند الجمهور وكون الركبان خلفها, والآثار في المشي أمامها أصح وأكثر
ويكره أن يجلس من يتبعها حتى يوضع بالأرض للدفن، إلا لمن سبق إلى القبر لما في انتظاره قائم حتى تصل إليه وتوضع من المشقة، وكره رفع الصوت معها ولو بقراءة أو تهليل لأنه بدعة، وكره أن تتبعها امرأة، ويُسجّى ندبا قبر امرأة.
واللحد أفضل من الشق وكلاهما جائز.
واللحد هو : أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر مكانا يسع الميت، وكونه مما يلي القبلة أفضل، والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانبه.
ويسن أن يعمق ويوسع قبر باللحلد، وحدّه بعضهم بإقامة بسطة، ويكفي ما يمنع من السباع وخروج الرائحة، وقال بعضهم أن يعمق قدر قامة وسط، ويقول مُدخله ندبا بسم الله وعلى ملة رسول الله، ويضعه ندبا في لحده على شقه الأيمن.
ويقدم في دفن الرجل من يقدم بغسله، ويقدم في دفن المرأة محارمها الرجال، وإن كان غير الرجال فلا يكره ولو كان محرمها حاضرا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن ينزل إلى قبر ابنته وهو أجنبي ،فهو غير مكروه
يجب أن يكون في قبره الميت مستقبل القبلة تنزيلا له منزلة المصلي، وينبغي أن يُقرّب من الحائط لأن لا ينكبّ على وجهه، فيُسند وجهه ورجلاه إلى جدار القبلة، ويسند من ورائه بالتراب لأن لا ينقلب، ويجعل تحت رأسه لبنة.
يبنى ويتعاهد على القبر باللبِن ويتعاهد بالمدر والحجارة في أثنائه ليتحمل ما يوضع عليه من طين ونحوه، ثم يحثى عليه التراب ثلاثا باليد ثم يهال عليه بالمساح ونحوها تكميلا للدفن، يهال أي يصب، ويدعى له بعد الدفن عند القبر بالاستغفار ويسأل له التثبيت، ويقال اللهم هذا عبدك وأنت أعلم به منا ولا نعلم منه إلا خيرا –وقد أجلسته لتسأله- اللهم ثيته بالقول الثابت في الآخرة كما ثبته في الدنيا اللهم ارحمه وألحقه بنبيك وله مثلنا بعده ولا تحرمنا أجره.
ويرش بالماء بعد وضع الحسباء عليه لأنه أثبت له وأمنع لترابه من أن تذهب به الرياح، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر ليعرف ويزار ويحترم، ويكون مسلَّما أي محدَّبا وقيل مسطَّحا وهو المربع، ويكره الارتفاع عليه لأنه إيذاء.
ويكره الحديث في أمر الدنيا عند القبور والمشي بالنعال فيها احتراما لأموات المسلمين، فإن القبور دار الموتى ومحل تزاورهم، يلقى بعضهم بعضا على أفوية القبور يتزاورون فيها، ويكره التبسم لأنه مخالف لحال الضعاف وتذكر الآخرة.
وبعد ذلك ذكر صاحب الزاد والروض والحاشية المسائلَ المتعلقة بالقراءة على القبر وإيصال الثواب وإصلاح الطعام لأهل الميت وبعثه إليهم وكراهة أن يفعلوه للناس وأيضا سنية زيارة القبور إلا للنساء وما يقوله الزائر للقبر وذكر أيضا سماع الميت للكلام ومعرفته زائره وسنية تعزية المسلم المصاب بالميت، وجواز البكاء على الميت وسنية الصبر وحرمة الندم والنياحة.
رابعا : كتاب الزكاة
562 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم [خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم] صدقة [في أموالهم] تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم " متفق عليه، واللفظ للبخاري.
فيه البدء بالشهادتين في الدعوة
عن معاذ بن جبل قال: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا - أو تبيعة - ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدله معا فريا ". رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والترمذي (وحسنه، والنسائي، وابن ماجه
الحالم البالغ والدينار أربع غرامات وربع من الذهب
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " رواه مسلم.
الورق بكسر الراء الفضة والوسق ستون صاعا
وعن سمرة بن جندب قال: " أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع " رواه أبو داود.
عروض التجارة فيها ربع العشر
والحديث من طريق جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب قال حدثني خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه .
قال ابن مفلح في "الفروع":" وهذا الإسناد لاينهض مثله لشغل الذِّمَّة لعدم شهرة رجاله ومعرفة عدالتهم ، وقال ابن حزم : جعفر وخبيب مجهولان ، وقال الحافظ عبدالحقّ :"حديث ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه"، وقال ابن القطان :" ما من هؤلاء من يعرف حاله" ، وقد جهد المحدِّثون فيهم جهدهم ، وانفرد الحافظ عبدالغنيّ المقدسيّ بقوله : إسناده مقارب" ، والذي وجدته هو أن النقاد يقولون عن الراوي حديثه مقارب أو يقولون مقارب الحديث ويذكر هذا اللفظ في المصطلح في آخر مراتب ألفاظ التعديل ممن لا يُحَسَّن حديثهم ، إلا أنّ الإمام البُخَاريّ وتلميذه الإمام الترمذي يطلقانه فيمن يحسنان حديثه بل وجدت البخاريّ يطلقه فيمن يصحح حديثه ، وربما قيل إنه تصحيح بالشواهد أو أنّ إطلاقه الحسن إنما هو على المعنى اللغويّ ، ومن ذلك قول الترمذي في إسماعيل بن رافع : قد ضعفه بعض أصحاب الحديث ، وسمعت محمّداً - يعني البُخَاريّ - يقول:"هو ثقة مقارب الحديث" ، ويبدو أنّ رأي الحافظ عبدالغنيّ موافقٌ لرأيهما فقد روى الحديث نفسه في الجامع الصغير من طريق أبي داود بهذا السند ثمّ قال:"إسنادٌ حسنٌ غريب" ، وقال في موضع آخر من "الجامع الصغير" أيضاً :" وهذا الإسناد على شرط أبي داود أخرج به عدّةَ أحاديث وهو إسناد حسنٌ غريبٌ " .
580 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس " متفق عليه.
(العجماء) : أي: البهيمة والدابة وسميت بها لعجمتها، وكل ما لم يقدر على الكلام فهو أعجمي (جبار) : بضم الجيم أي: هدر ، وإنما يكون جرحها هدرا إذا كانت متفلتة عاثرة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق
582 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ آخر: " فعدل الناس به نصف صاع من بر ".
تجب زكاة الفطر شرعاً على من فضل يوم العيد وليلته صاع زائد عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية.
قال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله : والصاع مكيال يقدر به الحجم، نقل إلى المثقال الذي يقدر به الوزن نظراً؛ لأن الأزمان اختلفت والمكاييل اختلفت، فقال العلماء: ونقلت إلى الوزن من أجل أن تحفظ؛ لأن الوزن يحفظ، واعتبر العلماء ـ رحمهم الله ـ البر الرزين، الذي يعادل العدس وحرروا ذلك تحريراً كاملاً، وقد حررته فبلغ كيلوين وأربعين جراماً من البر الرزين.
589 - وعن جبير بن مطعم قال: " مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بنو المطلب وبنو هاشم، شيء واحد " رواه البخاري.
المراد بآل رسول الله e وأقاربه الذين تحرم عليهم الصدقة كما في حديث أبي هريرة t قال كنا عند رسول الله e وهو يقسم تمرا من الصدقة والحسن بن علي في حجره فلما فرغ حمله النبي e على عاتقه فسال لعابه على خد النبي e فرفع إليه النبي e رأسه فإذا تمرة في فيه فأدخل النبي e يده فانتزعها منه ثم قال له أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد e .
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
واتفق العلماء على تفسير الآل ببني هاشم ، وعلى أن الصدقة المفروضة محرمة عليهم ، تكريما لهم.
زاد الشافعي على بني هاشم فألحق بهم بني المطلب واستدل على ذلك بهذا الحديث ووافقه بعض المالكية وجعله بعض شيوخهم هو المذهب ، ولكن الذي عليه مالك وأكثر أصحابه أنهم بنو هاشم فقط، وكذلك وافقه وأحمد في رواية عنه اختارها بعض أصحابه ، ولكن المذهب الذي عليه جمهور الحنابلة هو على الرواية الأخرى الموافقة لقول الجمهور ، ورد ابن قدامة قياس بني المطلب على بني هاشم بأنه لا يصح لأن بني هاشم أقرب إلى النبي e وأشرف وهم آل النبي e ، ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل أن بني عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئا وإنما شاركوهم بالنصرة أو بهما جميعا ، والنصرة لا تقتضي منع الزكاة.
ويحتاج فهم قوله إنما بنو المطلب وبنو هاشم، شيء واحد إلى تقديم نبذة عن الأنساب:
فنبينا الطيب المبارك هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - واسمه شيبة الحمد - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف - واسمه المغيرة ومناف اسم صنم أضيف عبد إليه - بن قُصَيّ - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر ، وإلى فهر جماع قريش ، وقصي هو الذي جمع قريشاً فيدعى مجمِّعا وبه سميت قريش قريشاً حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرقها فذلك التجمع هو التقرش فكان شريف أهل مكة ، المطاع بها ، وبعد موته قام على أمره ابنه عبد مناف ، وبنو عبد مناف هم عشيرة النبي e .
ومن أولاد عبد مناف - الأب الرابع للنبي e - : هاشم والمطلب وعبد شمس وهؤلاء الثلاثة أشقاء أمهم عاتكة بنت مرة بن هلال من بني سليم ، ونوفل وهو أخوهم لأبيهم أمه واقدة بنت أبي عدي واسمه نوفل بن عبادة من بني مازن بن صعصعة ، وكان بين هاشم وأخيه المطلب ائتلاف وكان يقال لهاشم والمطلب البدران ولعبد شمس ونوفل الأبهران ، ومن اتفاقهما أن هاشما أوصى إلى المطلب فكان بنوهما يداً واحدة ، وكان هاشم قد تزوج امرأة من بني النجار بالمدينة فولدت له شيبة الحمد جد رسول الله e ، ثم توفي هاشم ، وابنه شيبة بالمدينة عند أخواله ، فلما ترعرع خرج إليه عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه من أمه وقدم به مكة وهو مردفه على راحلته فقيل : عبد ملَكَه المطلب ، فغلب عليه هذا الاسم فقيل له عبد المطلب .
وانقطع نسل هاشم إلا من ابنه هذا الذي صار سيد قريش ، وولد اثني عشر رجلا ، والعقِب لأربعة منهم : الحارث والعباس وأبي لهب وأولاد أخيهم أبي طالب وهم جعفر وعَقيل وعلي.
فهؤلاء هم سلالة هاشم الذين تحرم عليهم الصدقة.
ثم إن كفار قريش تحالفوا على بني هاشم وكتبوا الصحيفة القاطعة بينهم وبين بني هاشم ، وتبايعوا فيها على أن لا يجالسوا بني هاشم ولا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم النبي e وبقوا على ذلك سنة ، فلم يدخل في بيعتهم بنو المطلب ، بل دخلوا مع بني هاشم في الشِّعب ، ولم تدخل معهم بنو نوفل وبنو عبد شمس.
فلما أنزل الله تعالى قوله تعالى : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ " الآية ، وأعطى رسوله e سهم ذي القربى من الخمس بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط بني عبد شمس الذين كان منهم عثمان بن عفان ولا بني نوفل الذين كان منهم جبير بن مطعم شيئاً مع كونهم بمنـزلة واحدة من القرابة كما سبق بيانه بالقدر الذي يحتمله المقام ، وبيـّن أن سبب ذلك أن بني هاشم والمطلب شيء واحد لم يفارق أحدهما الآخر في جاهلية ولا إسلام.
ومن اللطائف أن الشافعي من صَليـبة بني المطلب بن عبد مناف من قِبل آبائه فهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، والله أعلم .
598 - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " متفق عليه.
قوله شماله ما تنفق يمينه هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره.
ووقع في صحيح مسلم مقلوبا حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله وهو نوع من أنواع علوم الحديث
خامسا : كتاب الصيام
- بَاب فرض الصَّوْم
615 - عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " لَا تقدمُوا رَمَضَان بِصَوْم يَوْم وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين)). هذا الحديث أخرجه الشيخان و فيه نهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، أي لا تستقبلوا رمضان بصيام تنوون به الاحتياط له. هكذا قيل.
و نوزع بأن الحديث عام فيشمل النفل المطلق و النذر. ولا يستثنى منه إلا من كان له أيام يعتادها فتوافقت آخر شعبان.
و النهي في هذا الحديث قيل هو للكراهة نظرا للاستثناء بعده، و قيل للتحريم اعتبارا لظاهر النهي و الأصل فيه أنه للتحريم.
وما الحكمة في هذا النهي؟
1. قيل أنه للتقوي لرمضان، أي ليدخل الإنسان شهر رمضان بهمة و نشاط
2. خشية اختلاط النفل بالفرض
3. المعتمد أن النهي من أجل كون الصوم معلقا برؤية الهلال.
فمن تقدم الشهر فكأنه غير الحكم الشرعي.
و التقدم بالصوم أكثر من يوم أو يومين هل يجوز؟
1. قيل نعم، باعتبار مفهوم الحديث. أن الحديث "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين" مفهومه أنه لو نتقدمه بثلاثة أيام جاز ذلك.
2. و قيل لا مفهوم له و النهي جرى مجرى الغالب. لأن غالبا من يريد التقدم سيتقدم بيوم أو يومين.
قوله صلى الله عليه و سلم" إلا رجل كان يصوم" أي إلا من اعتاد صيام أيام فوافقت نهاية شعبان فلا مانع من ذلك, و يلحق بهذا الاستثناء ماكان واجبا وهو قضاء الإنسان قضاء رمضان و بقي يوم أو يومان من شعبان و كان عليه صوم يوم أو يومين جاز له ذلك.
وأيضا أن من نذر كمن نذر أنه إذا نجح في الامتحان أو شفي مريضه أو غير ذلك, فيصوم و حصل هذا الذي نذر في آخر شعبان, فيجوز أن يصوم ذلك أو يصوم لأجل ذلك.
وفيه جواز أن يقال رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة قال النووي في شرح مسلم وهو المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون وهو الصواب، وقالت طائفة لا يقال رمضان على انفراده بحال، وإنما يقال شهر رمضان وهذا قول أصحاب مالك وزعم هؤلاء أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا يطلق على غيره إلا أن يقيد، وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة وإلا فيكره. قالوا فيقال صمنا رمضان وقمنا رمضان ورمضان أفضل الأشهر ويندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان وأشباه ذلك ولا كراهة في هذا كله، وإنما يكره أن يقال جاء رمضان ودخل رمضان وحضر رمضان وأحب رمضان ونحو ذلك. قال النووي وهذان المذهبان فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت فيه نهي، وقولهم أنه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح ولم يصح فيه شيء وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف وأسماء الله تعالى توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة.
617,616 - عَن ابْن عمر قَالَ، سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُول: " إِذا رَأَيْتُمُوهُ فصوموا، وَإِذا رَأَيْتُمُوهُ فأفطروا، فَإِن غُم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ " مُتَّفق عَلَيْهِ وَلمُسلم - " فَإِن أُغمي عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ ثَلَاثِينَ " - وللبخاري: " فَإِن غُم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ ". وَله من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " فَإِن غُبِّي عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ ".
تخريجه: أخرجه الشيخان و فيه موضع الشرح في إسناده و في متنه من جهة "فاقدروا له" ، و لفظ آخر وهو " فأكملوا عدة شعبان."
أيضا فيه شرح بعض الكلمات الغريبة.
أولا : إذا رأيتموه : أي إذا رأيتم الهلال.
ثانيا : إذا رأيتموه فصوموا : أي هلال رمضان.
ثالثا : إذا رأيتموه فأفطروا : أي هلال شوال.
رابعا : غم : أي حال بينكم و بينه غيم. و في حديث أبي هريرة "غبي" من الغباوة، و هي عدم الفطنة، أي استعارة لخفاء الهلال.
خامسا : أيضا فيه "فاقدروا له"، أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام ثلاثين يوما كما في الرواية الأخرى "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين."
هذا قول الجمهور و في ذلك رأي آخر "فاقدروا له" أي ضيقوا له.
و ذهب إليه الحنابلة كما سنذكر بيانه إن شاء الله تفصيلا.
وقد أنصف الإمام ابن عبد الهادي فقال في تنقيح التحقيق : الذي دلت عليه أحاديث هذه المسألة أن أيّ شهر غُمّ أُكمل ثلاثين .
وقيل : قدروه بحساب المنازل
إذا رأيتموه أي رآه بعضكم و ناب عن الآخرين للاعتماد عليه لأنه عدل و أخبر برؤيته هلال رمضان, فيكفي في دخول هلال الشهر واحد. بخلاف خروجه أي هلال شوال فيجب فيه اثنان على تفصيل و بيان سأذكره إن شاء الله .
في هذه المسألة إذا رئي في الليل أي عند المغرب. و أما لو رئي في النهار الثاني فهل هو لليلة المستقبلة أو الماضية؟ هذا فيه أيضا لا يحتاج إلى بيان.
أيضا "إذا رأيتموه", هل هذا حكم لجميع الأمة أم للبلد؟ أي يعني هل تختلف المطالع؟ أم هذا الحكم عام لجميع بلاد المسلمين؟
وأخيرا مسألة الحساب الفلكي. هل الرؤية بالعين؟ أم لوعلم أنه وجد الهلال و طلع الشهر، دخل الشهر، هل يكفي للحساب الفلكي أم لا؟
و يتعلق بهذا الحديث حديثان بعده، حديث ابن عمر رضي الله عنهما له طريقان بعده.
الأول : في "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما." هذا الحديث أخرجه أبو داود.
و فيه اعتبار العدالة في شهادة الصوم, و عورض بأنه صلى الله عليه و سلم قبل شهادة أعرابي دون اختباره, وأجيب بأنه كان قد أسلم في ذلك الوقت فهو عدل بمجرد ذلك و ذهب البعض إلى ضعف الحديث.
و فيه قبول شاهدين. وعورض بحديث ابن عمر للثالث الذي هو الرابع في الباب "ترآءى الناس الهلال" و هو الحديث الذي بعده. فإن فيه قبول رجل واحد، ولكن هذا صريح المقدم عليه.
ولذا اختلف العلماء في هذه المسألة، هل يقبل واحد أم اثنان في دخول رمضان. و أما في خروجه فاتفقوا على اشتراط اثنين إلا ما حكي عن أبي ثور. والله أعلم.
وثبوت هلال رمضان عند أكثر أهل العلم يكتفى فيه بعدل واحد
618 - وَعَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ، عَن حُسَيْن بن الْحَارِث الجدلي، أَن أَمِير مَكَّة خطب ثمَّ قَالَ، قَالَ عَلّي: " عهد إِلَيْنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَن ننسك للرؤية، فَإِن لم نره وَشهد شَاهدا عدل نسكنا بِشَهَادَتِهِمَا. فَسَأَلت الْحُسَيْن بن الْحَارِث، من أَمِير مَكَّة؟ قَالَ [لَا أَدْرِي، ثمَّ لَقِيَنِي بعد فَقَالَ: هُوَ] الْحَارِث بن حَاطِب أَخُو مُحَمَّد بن حَاطِب، ثمَّ قَالَ الْأَمِير: إِن فِيكُم من هُوَ أعلم بِاللَّه وَرَسُوله مني، وَشهد هَذَا من رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى رجل، قَالَ الْحُسَيْن: فَقلت لشيخ إِلَى جَنْبي: من هَذَا الَّذِي أَوْمَأ إِلَيْهِ الْأَمِير؟ قَالَ: هَذَا عبد الله بن عمر وَصدق، وَهُوَ أعلم بِاللَّه مِنْهُ. فَقَالَ: بذلك أمرنَا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفظه، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: (هَذَا إِسْنَاد صَحِيح مُتَّصِل).
هو من مسند أمير مكة الحارث بن حاطب الجُمَحيِّ
619 - وَعَن أبي بكر بن نَافِع، عَن أَبِيه، عَن ابْن عمر قَالَ: " ترَاءَى النَّاس الْهلَال فَأخْبرت رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنِّي رَأَيْته، فصَام وَأمر النَّاس بصيامه " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، (وَقَالَ: (عَلَى شَرط مُسلم)) .
620 - وَعَن ابْن عمر، عَن حَفْصَة، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من لم يبيت الصّيام، قبل الْفجْر، فَلَا صِيَام لَهُ " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، (وَقَالَ: (لَا نعرفه [مَرْفُوعا] إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقد رُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَوْله وَهُوَ أصح) . وَقَالَ النَّسَائِيّ (وَالصَّوَاب عندنَا أَنه مَوْقُوف) ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: (قد اخْتلف عَلَى الزُّهْرِيّ فِي إِسْنَاده وَفِي رَفعه، وَعبد الله بن أبي بكر أَقَامَ إِسْنَاده وَرَفعه، وَهُوَ من الثِّقَات الْأَثْبَات))
الحديث (٦٢٠) ((عن ابن عمر، عن حفصة، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "من لم يبيت الصيام….."))
اختلاف بين مذهب الجمهور و الحنفية :
و قد ذهب إليه الجمهور في رمضان و أجازوا النفل بنية النهار. و أما الحنفية فأجازوا النية من النهار في رمضان، وخالفوا الجمهور في النفل و أوجبوا النية من الليل في القضاء و النذر و ما شابه ذلك.
هل يشترط النية لكل يوم أم يكفي للشهر كله؟
621 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " دخل عليّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذَات يَوْم فَقَالَ: هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ فَقُلْنَا لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذا صَائِم، ثمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخر فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله أُهدي لنا حيس فَقَالَ: أرنيه، فَلَقَد أَصبَحت صَائِما فَأكل ". وَفِي لفظ: " قَالَ طَلْحَة - وَهُوَ ابْن يَحْيَى -: فَحدثت مُجَاهدًا بِهَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: ذَلِك بِمَنْزِلَة الرجل يخرج الصَّدَقَة من مَاله، فَإِن شَاءَ أمضاها وَإِن شَاءَ أمْسكهَا " رَوَاهُ مُسلم
ما يستفاد منه : فيه جواز صوم التطوع بنية من النهار.
حيس : و هو التمر مع السمن و الأقط
622 - وَعَن سهل بن سعد أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " لَا يزَال النَّاس بِخَير مَا[1] عجلوا الْفطر ".
و ما يستفاد منه : دليل استحباب تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس مخالفة لليهود.
"ما" ظرفية
623 - وَعَن أنس بن مَالك قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " تسحرُوا فَإِن فِي السّحُور بركَة " مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
ما يستفاد منه : في فضل السحور, و فيه أنه ليس بواجب إجماعا, ثم معنى بركة السحور.
624 - وَعَن سلمَان بن عَامر الضَّبِّيّ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " إِذا أفطر أحدكُم فليفطر عَلَى تمر، فَإِن لم يجد فليفطر عَلَى مَاء فَإِنَّهُ طهُور " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ وَهَذَا لَفظه، (وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَقَالَ: (عَلَى شَرط البُخَارِيّ)) .
حديث سلمان بن عامر ، وقال الترمذي عنه في الصوم حسن صحيح مع جهالة الرباب الضبية وليس ذلك من تساهله وغلطه ولا خطأ من النساخ لأنه هكذا في تحفة الأشراف أيضا فقد يريد أنه حسن بهذا السند صحيح لغيره، لكن يشكل عليه أنه كان اكتفى بتحسينه حين رواه في الزكاة فلعله أراد أنه حسن لغيره كما هو اصطلاحه في الحسن ، وصحح الحديث في الصوم لكونه في الآداب ، وسهل ذلك أيضا كونها تابعية تروي عن عمها .
وقد صححه أبو حاتم وقد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه و سلم، كما في حديث آخر عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن.
وفي البدر المنير (5/ 697) : " قال الترمذي: هذا حديث حسن (صحيح). ولعله علم حال الرباب بنت صليع فإنها مستورة، وقد ذكرها ابن حبان في ثقاته. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم في «علله»: سألت أبي عنه فقال: صحيح من طريقيه. وقال الحافظ أبو الحجاج المزى: استشهد بها البخارى ـ يعنى ذكر حديثها فى صحيحه تعليقاً ـ وروى لها الباقون سوى مسلم . ويعنى الحافظ باستشهاد البخارى بها ؛ تقوية أمرها والاعتبار بمتابعتها ، فقد علَّق البخارى حديثها فى كتاب العقيقة عقب حديث سلمان بن عامر مع الغلام عقيقة، فقال : وقال غير واحد عن عاصم وهشام عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان عن النَّبىِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم " .
وهو دليل استحباب الإفطار بالتمر. وذكر ابن القيم فائدته الصحية للمفطر .
625 - وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " نهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن الْوِصَال، فَقَالَ رجل من الْمُسلمين فَإنَّك يَا رَسُول الله تواصل؟ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وَأَيكُمْ مثلي؟ إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني، فَلَمَّا أَبُو أَن ينْتَهوا عَن الْوِصَال وَاصل بهم يَوْمًا، ثمَّ يَوْمًا، ثمَّ رَأَوْا الْهلَال، فَقَالَ: لَو تَأَخّر الْهلَال لزدتكم! كالمنكِّل لَهُم - حِين أَبَوا أَن ينْتَهوا " مُتَّفق عَلَيْهِ وَاللَّفْظ لمُسلم.
يَسقيني ويُسقيني بالفتح والضم والفتح أشهر.
وفي بعض الروايات: (( فاكلفوا من العمل ما لكم به طاقة ))
قوله: (( فاكلَفوا )) : خذوا وتحملوا.
وقوله: (( كالمنكل لهم )) أي كالمعاقب لهم.
و(( الوصال )) : أن يترك الأكل والشرب في الليل بين صومين عمدا بلا عذر، أي يترك ما أبيح له -عند الجمهور- من الأكل والشرب وأيضا من المفطرات.
وهو منهي عنه كما في هذا الحديث, كراهة (مكروه) عند الجمهور، والأصح عند الشافعية كراهة التحريم، وأجازه ابن الزبير رضي الله عنه فكان يواصل نصف شهر, وكذلك ابن وضاح من المالكية : كان يواصل أربعة أيام. وعند الإمام أحمد وبعض المالكية : يجوز إلى السحر ويكره زيادة على ذلك.
والحكمة في النهي: الرفق بهم خشية الضعف والضرر، وقيل خشية أن يفترض عليهم، وقيل لمخالفة النصارى.
وحكي عن الجمهور أنه من خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم
1. وقولهم: (( إنك تواصل )) دليل على استواء المكلفين في الأحكام في الأصل.
2. وقوله: (( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )) الأصح عند النووي رحمه الله أعطى قوة الطاعم الشارب من غير شبع ولا ري ، وليس المراد حقيقة الأكل فإنه لا يبقى مواصلا ، وقيل : يخلق فيه الشبع بلا أكل والري بلا شرب: ذهب ابن حبان إليه حتى إنه ضعّف حديث وضع الحجر على بطنه وذلك مردود، وقيل بل هو على ظاهره يؤتى بطعام وشراب من الجنة. ورجح الإمام ابن القيم رحمه الله أنه ينشغل بمحبة الله وبما يرد عليه من الفهوم عن الطعام والشراب والله تعالى أعلم.
626 - وَعنهُ قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله تَعَالَى حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
(( من لم يدع )) أي لم يترك. زاد البخاري في الأدب "الجهل" أي (( من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به )) والضمير في "به" يعود على قول الزور.
وبناء على الرواية الثانية يعود على الجهل, والمعنى متقارب.
والمراد ب(( قول الزور)): الكذب.
والمراد ب(( الجهل)): السفه والعمل به.
والمراد ب(( العمل به)): أي بمقتضاه.
قوله (( فليس لله حاجة في أن يدع طعامه )) أي أن يترك طعامه.
هذا تحذير من قول الزور وما ذكر معه وليس معناه أنه يترك صيامه بل هو على التحذير والتعظيم.
وقوله: (( ليس لله حاجة )) لا مفهوم له، لأن الله لا يحتاج إلى شيء بل معناه ليس لله إرادة في صيامه, وهو كناية عن عدم القبول. والله أعلم. مثل قوله تعالى: (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) فإن معناه لن يصيب رضاه الذي ينشأ منه القبول.
قال ابن العربي رحمه الله : "مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه". وقال البيضاوي: "ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة بالسوء". والله تعالى أعلم.
وهذه الأفعال تنقص الصوم. وذهب ابن حزم رحمه الله ( الظاهرية) إلى أنها (المعاصي) تفطر الصائم فهي تنقض الصوم.
627 - وَعَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من فطّر صَائِما كتب الله لَهُ أجره إِلَّا أَنه لَا ينقص من أجر الصَّائِم شَيْء " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَهَذَا لَفظه، وَابْن مَاجَه، وَابْن حبَان، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، (وَصَححهُ) .
بعد ذلك حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه مرفوعا: (( من فطر صائما كتب الله له أجره إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء )). هذا الحديث رواه الإمام أحمد، والإمام الترمذي وقال : حسن صحيح، وأيضا رواه الإمام النسائي في الكبرى، وابن حبان، وغيرهم.
هذا الحديث يدل على فضيلة تفطير الصائم ويقع ذلك بأدنى ما يطلق عليه الاسم ولو بتمرة واحدة، وذهب بعض العلماء إلى أنه ينبغي أن يكون في حق من يشبعه.
وهذا الحديث (( فطر...فله مثل أجره أو كتب الله له أجره)) الضمير يرجع إلى الصائم سواء كان صوم فرض أو صوم نفل.
وهذا الحديث دليل على فضيلة التعاون على الخير وأن من أعان غيره في شيء من أعمال البر والخير كان له مثل أجره، فمن أعان مؤمنا على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل أجر العامل. والله تعالى أعلم.
628 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقبّل وَهُوَ صَائِم ويباشر وَهُوَ صَائِم، وَلكنه كَانَ أملككم لأربه " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم.
629 - وَله عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: " كَانَ رَسُول الله يقبل فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم ".
*حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل و هو صائم و يباشر و هو صائم لكنه كان أملككم لإربه. متفق عليه. و في لفظ لمسلم "يقبل في رمضان."*
أيضا في لفظ عند مسلم :"يقبلني."
و في لفظ عند الشيخين :"كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت."
"الإرب" اختلف في ضبط هذه الكلمة، إِرْب و أَرَب. بكسر الهمزة و إسكان الراء و بفتحهما. وذهب الخطابي والقاضي عياض و النووي إلى أن الأول أشهر "الإرب" و نقل ابن الأثير "الأرب" على أكثر المحدثين. واختلف في معناه أيضا.
فقال الخطابي: معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها. والأرب أيضا العضو، و قال النووي رحمه الله معناه بالكسر الوطر والحاجة وكذلك بالفتح ولكن يطلق المفتوح أيضا على العضو
وأما ابن الأثير فقال بالعكس بالفتح و الحاجة و بالكسر فيه وجهان الحاجة أيضا أو العضو.
و قال القاضي عياض في مشارق الأنوار برواية الكسر فسروه بالحاجة وبالعضو.
إذن, الإرب العضو عند ابن الأثير ، الإرب فيه وجهان الحاجة أو العضو. و أما الأرب فهو الحاجة و الظاهر أن هذا هو كلام الخطابي و غيره, فالأقرب أن الإرب هو الذي فيه وجهان، وأما الأرب فهو الحاجة.
و أيهما أرجح؟ هل هو الحاجة أم هو العضو؟ الأقرب أنه بكسر الهمزة والمعتمد في معناه هنا: الحاجة ، لأنه جاء في الحديث في الموطأ "و أيكم أملك لنفسه من رسول الله صلى الله عليه و سلم"، فالأرب هو الحاجة و إذا قيل الإرب أيضا يراد به هنا "الحاجة" أيكم أغلب لهواه و لحاجته.
و إذا قلنا إنه العضو فهو عضو مطلق
لكن القرينة؛ التقبيل و المباشرة و قرينة كون الصائم ممنوعا من الجماع فهذه القرينة تدل أن المراد بالعضو هنا عضوا مخصوصا و هو يعني الفرج.
والعضو هكذا فسر الإرب بالعضو مطلقا و قال في المحكم الإرب العضو المؤخر الكامل الذي لم ينقص منه شيء. إذن, هذا ما يتعلق بالإرب و الأرب.
النقطة الثالثة بعد التخريج و تفسير كلمة الإرب حكم القبلة والمباشرة للصائم.
ما حكم القبلة و المباشرة للصائم؟
كماهو واضح أن الصوم يمنع فيه شهوة الإنسان و يحل للإنسان أن يقضي شهوته في الليل, كما قال تعالى : ((أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم و أنتم لباس لهن ،علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)).
فالأصل في الصوم الامتناع عن الشهوة .
ثم جاء هذا الحديث يبين لنا إباحة القبلة للصائم.
واختلف العلماء في ذلك.
١. فذهب طائفة منهم إلى الإباحة و هذا يعني ظاهر هذا الحديث. وهو قول جمع من العلماء من الصحابة و من بعدهم وهو اختيار ابن عبد البر وهو مذهب الإمام أحمد.
٢. و ذهب آخرون إلى الكراهة وقالوا إنها تجرح الصوم وإنها شهوة, والصوم إنما يكون من الشهوة, بل ذهب بعضهم أنه يفطر إذا قبّل في رمضان : جاء هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن سعيد بن المسيب رحمه الله و القول بالكراهة هو قول مالك رحمه الله.
٣. و القول الثالث في المسألة هو التفريق بين الشيخ و الشاب فتكره للشاب دون الشيخ و هذا محكي عن جمع من الصحابة و التابعين منه ابن عباس وبن عمر و حكي أيضا عن مالك رحمهم الله جميعا.
٤. القول الرابع وهو شبيه بالقول الثالث وهو التفريق بين من يأمن على نفسه الجماع و الإنزال فيباح له, و بين من لا يأمن على نفسه فيكره في حقه. و هذا مذهب الحنفية والشافعية.
والفرق بين الشافعية والحنفية أن الحنفية قالوا بالكراهة وأما الشافعية فذهب بعضهم إلى الكراهة التحريمية ، يعني شددوا في ذلك أكثر من الحنفية.
إذن قولهم من لا يأمن على نفسه أو من تحرك القبلة شهوته فعند الحنفية والشافعية تكره في حقه, لكن عند الشافعية في الأصح أنها كراهة التحريم. طبعا هذا أيضا قريب من الذي قبله وهو التفريق بين الشيخ و الشاب بناء على أن الشاب في الغالب هو لا يأمن على نفسه وأن الشهوة تتحرك بالقبلة عندهم.
فالفرق بينهما أن الشاب مظنة فأصحاب القول الثالث ذهبوا إلى المظنة والله أعلم.
فعلى القول الرابع العبرة هو تحرك الشهوة وخوف الإنسان -سواء كان شابا أو شيخا قويا-، و إذا كان شيخا لا تحرك شهوته أو شابا ضعيفا لم تحرك شهوته لا يكره.
٥. القول الخامس مذهب الحنابلة إذا كان المقبل ذا شهوة مفرطة بحيث أنه يغلب على نفسه أنه إذا قبل أنزل لم يحل له وإن كان ذا شهوة لكن لا يغلب على ظنه ذلك كره له. وإما مما لا تحرك القبلة شهوة فالكراهة روايتان, وهو أيضا قريب مما قبله لكن بينهما فرق.
٦. القول السادس : التفريق بين صيام الفرض فيكره فيه و صيام النفل فلا يكره. وهذا رواية ابن وهب عن مالك، لكن يرده الرواية التي في مسلم "كان يقبل في رمضان" فالأصل أنهما سواء. والله تعالى أعلم.
والأقرب هو قول الجمهور : تباح القبلة للصائم إن أمن على نفسه الجماع والإنزال
630 - وَعَن ابْن عَبَّاس: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احْتجم وَهُوَ محرم، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
631 - وَعَن شَدَّاد بن أَوْس: " أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَتَى عَلَى رجل فِي البقيع وَهُوَ يحتجم - وَهُوَ آخذ بيَدي لثمان عشرَة خلت من رَمَضَان - فَقَالَ: أفطر الحاجم والمحجوم " رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفظه، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن حبَان وَالْحَاكِم (وَقَالَ: (هَذَا حَدِيث ظَاهِرَة صِحَّته) وَصَححهُ أَيْضا أَحْمد، وَإِسْحَاق، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَعُثْمَان الدَّارمِيّ وَغَيرهم) ، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: (ثبتَتْ الْأَخْبَار عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ: " أفطر الحاجم والمحجوم ")) .
632 - وَعَن أنس بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " أول مَا كُرهت الْحجامَة للصَّائِم أَن جَعْفَر بن أبي طَالب احْتجم وَهُوَ صَائِم فَمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أفطر هَذَانِ! ! ثمَّ رخص النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد فِي الْحجامَة للصَّائِم. وَكَانَ أنس يحتجم وَهُوَ صَائِم " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ (وَقَالَ: (كلهم ثِقَات وَلَا أعلم لَهُ عِلّة) ، وَفِي قَوْله نظر من غير وَجه) . وَالله أعلم.
أحاديث الحجامة الثلاثة و بعدها حديث القيء وهما مما اختلف في كونه مفطرا للصائم وكونهما إخراجا فجمعهما البخاري في ترجمة واحدة.
فأما أحاديث الحجامة فأولها حديث بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
(رواه البخاري). احتجم و هو محرم و احتجم و هو صائم
و هذا يدل على أن الحجامة لا تفطر و هو مذهب الجمهور. وخالفهم الإمام أحمد فذهب بأن الحجامة تفطّر و وافقه من الشافعية ابن خزيمة و ابن المنذر و ابن حبان و أبو الوليد النيسابوري و من المالكية الداودي.
وذهب الجمهور إلى حديث ابن عباس و قالوا إن الحجامة لا تفطر و أجابوا عن حديث أفطر الحاجم و المحجوم إما بتضعيفه أو بنسخه و قالوا إنه كان في عام الفتح و إن حديث احتجم وهو محرم كان في حجة الوداع فهو متأخر و أيضا أيدوا ذلك بحديث أنس رضي الله عنه وهو الحديث الثالث في الباب وهو حديث كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم و هو صائم فمر النبي صلى الله علي و سلم فقال أفطر هذان ثم رخص النبي صلي الله عليه وسلم بعدُ بالحجامة بالصائم. و لكن هذا الحديث و إن كان قال الدارقطني كلهم ثقات فإنه معلول كما قال ابن عبد الهادي في قوله نظر من غير الوجه وأيضا ابن القيم بين ضعفه في تهذيب السنن.
وخلاصة ذالك أنه حديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة و المسانيد المعروفة وإنما أخرجه الدارقطني وأيضا فيه ضعف خالد بن مخلد له مناكير, وأيضا شيخه رواه عبدالله بن المثنى وليس بالقوي وقد روى غيره عن ثابت خلاف ما روى, والذي روى عن ثابت خلافه هو شعبة أمير المؤمنين في الحديث. وأيضا إن الناسخ يجب أن يكون في رتبة المنسوخ وهذا حديث الواحد, وحديث أفطر الحاجم والمحجوم جاء عن عدد من الصحابة. وأيضا فيه نكارة من جهة المتن أن جعفر رضي الله عنه إنما قدم من الحبشة عام خيبر, وقتل عام مؤتة ولم يشهد الفتح فكيف يحصل ذلك, وإنما صام مع النبي صلي الله عليه وسلم رمضان واحدا ولم يحضر الفتح. وهذه القصة كانت في الفتح. والله أعلم.
وذهب طائفة ممن رأى قول الجمهور إلى تضعيف حديث أفطر الحاجم والمحجوم و ممن ذهب إلى تضعيفه ابن معين فقد قال: ليس فيه شيء يثبت .
ولكن المعتمد أن الحديثين صحيحان حديث أفطر الحاجم و المحجوم وحديث احتجم النبي صلي الله عليه وسلم وهو صائم واحتجم وهو محرم فكلاهما صحيح, لكن اختلف العلماء بعد ذلك هل أحدهما ناسخ فإن كان أحدهما ناسخ فالأقرب في ظني والله أعلم أن حديث ابن عباس يكون ناسخا ويكون حديث أفطر الحاجم المحجوم منسوخا، أو يجاب عنه بأنه محمول على معنى مقاربة الإفطار والتعرض له, أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى الجوف عند المس وأما المحجوم فإنه لا يأمن ضعفه بخروج الدم إلى فيؤول أمره إلى أن يفطر، والله أعلم.
633 - وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه، فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظ مُسلم، وللبخاري: " فَأكل وَشرب " وَالدَّارَقُطْنِيّ (وَالْحَاكِم وَصَححهُ) : " من أفطر فِي رَمَضَان نَاسِيا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة ".
ذهب الجمهور إلى عدم وجوب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا.
وعن مالك رحمه الله: "يبطل صومه ويجب عليه القضاء"، أجاب الداودي :"لعل مالكا لم يبلغه الحديث أو أوّله على رفع الإثم" , وذهاب مالك هو من جهة القياس لأن الصوم فات ركنه وهو من باب المأمورات, والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات.
وأما من لم يوجب القضاء وهم الجمهور, فعمدتهم هذا الحديث, لأنه أمر بالإتمام وسمى الذي يتمه صوما, والظاهر حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا الحقيقة اللغوية.
وتعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب لأن نسيان المباشرة وما ألحق بها نادر بالنسبة إليهما وحكم الغالب لا يقتضي مفهوما.
واختلف القائلون بالإفساد, هل يوجب القضاء والكفارة, أم يوجب القضاء فقط في الجماع, مع اتفاقهم على أن أكل الناسي لا يوجبها, ومدار كل ذلك على قصور حالة المجامع ناسيا على حالة الآكل, ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس.
واحتج ابن العربي لمالك بأن الفطر ضد الصوم, والإمساك ركن الصوم فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة, وتأوله على أن معناه: لا قضاء عليك الآن. وحمله المالكية على سقوط المؤاخذة أو يحمل الحديث عل صوم التطوع.
ويجاب على قولهم بقوله تعالى {.... ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } فالنسيان ليس من كسب القلوب, وأيضا أن هذا الحديث موافق للقياس على إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه, فكذلك الصيام. وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل.
وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم.
634 - وَعنهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من ذرعه الْقَيْء فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة [وَمن استقاء فَعَلَيهِ الْقَضَاء] " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد قَالَ: (سَمِعت أَحْمد يَقُول: لَيْسَ من ذَا شَيْء) ! ! ! وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَهَذَا لَفظه، وَالتِّرْمِذِيّ (وَقَالَ: (حَدِيث حسن غَرِيب، وَقَالَ قَالَ مُحَمَّد - يَعْنِي البُخَارِيّ - لَا أرَاهُ مَحْفُوظًا) ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِي رُوَاته: (كلهم ثِقَات) . وَالْحَاكِم وَقَالَ: (صَحِيح عَلَى شَرطهمَا) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا مَوْقُوفا) ، وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ فِي الْقَيْء: " لَا يفْطر ".
وهذا الحديث اختلف في درجته فمنهم من ذهب إلى تصحيحه ومنهم من أعله، وقال النووي رحمه الله: هو حسن بمجموع طرقه وشواهده. ولكن إذا نظرنا إلى القرائن فإن هذا الحديث قد أعله الإمام أحمد رحمه الله , وقال إنما حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ليس هذا الحديث وإنما حديث من أكل ناسيا فإنما أطعمه الله وسقاه وقال ليس هذا من حديث عيسى بن يونس وليس هو في كتابه وليس في حديثه , حدث به عيسي وأن هذا غلط. وقد وقفه عطاء و غيره على أبي هريرة وهو أيضا معلول لأنه روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال إذا قاء فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج ، قال : ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح.
ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح فهذا معناها أنه لم يثبت عن أبي هريرة وإلا لقال به.
وقد ذهب الجمهور إلى ما دل عليه من التفرقة بين من سبقه القيء فلا يفطر ، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء و لم يتعمده إلا في رواية عن الحسن, وجاء مثلها عن ربيعة أيضا .
و بين من تعمده فيفطر ونقل ابن المنذر أيضا الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء, وهو قول الجمهور لكن فيه خلاف فقد قال طاووس وبعض المالكية أنه لا يفطر حتى لو استقاء عمدا لكن يستحب له القضاء حينئذ ، ولعل البخاري يرى ذلك, كما يدل عليه تبويبه وسياقه أثر أبي هريرة والله تعالى أعلم.
-635 وَعنهُ جَابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:
" أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج عَام الْفَتْح
إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى بلغ كُراع الغميم فصَام النَّاس، ثمَّ
دَعَا بقدح من مَاء فرفعه حَتَّى نظر النَّاس إِلَيْهِ، ثمَّ شرب، فَقيل لَهُ بعد
ذَلِك: إِن بعض النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم الصّيام وَإِنَّمَا ينظرُونَ فِيمَا
فعلت؟ ؟ . فَدَعَا بقدح من مَاء بعد الْعَصْر " رَوَاهُ مُسلم.
636 - وَرَوَى أَيْضا عَن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله أجد بِي قُوَّة عَلَى الصّيام فِي السّفر فَهَل عليّ جنَاح؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هِيَ رخصَة من الله تَعَالَى فَمن أَخذ بهَا فَحسن، وَمن أحب أَن يَصُوم فَلَا جنَاح عَلَيْهِ ".
و عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: (( أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج عَام الْفَتْح إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى بلغ كُراع الغميم ))
((كراع الغميم)) هذا موضع في الطريق بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عسفان يبعد حوالي ٦٠ كيلومتر عن مكة المكرمة،
وقوله ((أولئك العصاة)) أي: من قام بالصوم بعد أن أمر بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه أو لشفقته عليه أو للاستعداد للغزو أو للاستعداد للفتح، وإنما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإفطار حتى رفع قدح ماء بحيث يراه الناس لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله، فمن أبى فقد بالغ في العصيان، وهذا بالنسبة للصوم في السفر إذا تضرر به الصائم.
والمسافر سفر قصر يجوز له الصوم ويجوز له الفطر ما كان يطيقه بلا ضرر، وقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صومه أصلا في السفر فإن صامه لم ينعقد لظاهر الآية { فَمَنْ كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة : 184]، ولحديث (( أولئك العصاة ))، وأما الجمهور فقالوا يجوز صومه في السفر وينعقد ولكن اختلفوا هل الصوم أفضل أم الفطر أفضل، فقال الجمهور: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ولا ضرر، فإن تضرر فالفطر أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ولأنه يحصل براءة الذمة في الحال، وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل واحتج بالحديث الأخير – الحديث الثاني – وهو (( هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه))، فظاهره ترجيح الفطر، وأجاب الجمهور أنه فيمن يجد مشقة أو يخاف ضررا، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (( كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن))، وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث في ذلك.
637 - وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: " رُخص للشَّيْخ الْكَبِير أَن يفْطر وَيطْعم عَن كل يَوْم مِسْكينا وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَقَالَ: ((هَذَا إِسْنَاد صَحِيح) وَالْحَاكِم وَقَالَ: (صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ)) .
حديث ابن عباس (( رخص للشيخ الكبير....)) وأيضا رواه ابن الجارود في المنتقى والبيهقي في السنن الكبرى. وقد جاء أصله في صحيح البخاري .
هذا الحديث أو الأثر فيه أن المريض الذي لا يقدر على الصوم فإنه يطعم ولا قضاء عليه.
وعند مالك أن الإطعام بالنسبة للكبير منسوخ فهو مستحب وليس واجبا.
والمراد بالكبير أي: العاجز, فيطعم عن كل يوم مسكينا مدا من بر. وعند بعض أهل العلم مدين ( نصف صاع). أي: أنهما ( الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة ) يصومان لكن مع شدة وتعب ومشقة عظيمة وهذا فيمن يئس من القضاء.
وكذلك من يشق عليه الصيام وإن كان صغيرا في السن كالمريض الميؤوس من برئه فهذا ملحق بالشيخ الكبير لأنه لن يتمكن من القضاء ما دام مرضه ملازما له.
وهذا الحديث يحتمل أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو المتبادر من قوله : رُخِّص. ويحتمل أنه استنبطه من قوله تعالى (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) أومن قوله تعالى (( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين )) . فقد كان (الراوي) يرى أنه ليس منسوخا وأنه كان في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
والجمهوز ذهبوا إلى أنها منسوخة, بحيث كان في أول الأمر من شاء أفطر وأطعم ومن شاء صام, ثم نسخ ذلك.
ويخيّر الكبير العاجز عن الصيام ومن في حكمه بين أن يفرق المد حَبًّا على المساكين وهوأكثرمن خمسمائة غرام من البر أو الحنطة أو أن يصنع طعاما ويدعوا إليه من المساكين بقدر أيامه التي أفطرها. وقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة ثريد ودعا ثلاثين مسكينا فأشبعهم.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: قرأ (( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين )) قال: ليست بمنسوخة, والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
وأما المريض الذي يرجى برؤه فلا فدية عليه, فإذا قدر على الصوم لزمه وجوبا لقوله تعالى: (( فعدة من أيام أخر )).
638 - وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: هلكتُ يَا رَسُول الله! قَالَ: وَمَا أهْلكك؟ قَالَ: وَقعت عَلَى امْرَأَتي وَأَنا صَائِم فِي رَمَضَان، قَالَ: هَل تَجِد مَا تعْتق رَقَبَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَجِد مَا تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا، ثمَّ جلس فَأَتَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعرق فِيهِ تمر فَقَالَ: تصدق بِهَذَا، فَقَالَ: عَلَى أفقر منا؟ ! فَمَا بَين لابتيها [أهل] بَيت أفقر إِلَيْهِ منا! فَضَحِك النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى بَدَت أنيابه، ثمَّ قَالَ: اذْهَبْ فأطعمه أهلك ". مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم. وَقد رُوِيَ الْأَمر بِالْقضَاءِ من غير وَجه، وَهُوَ مُخْتَلف فِي صِحَّته.
هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وهو حديث كثير الفوائد وأفرده بعض أهل العلم بمصنف مستقل. في آخره وقد روي الأمر بالقضاء من غير وجه وهو مختلف في صحته، هذه الزيادة التي هي "يقضي يوما مكانه" أخرجه أبو داود من طريق هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأعلها ابن حزم بهشام.
وقد روى هذا الحديث أصحاب الزهري الثقات كيونس وعقيل ومالك وغيرهم فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة. وقد جاءت من أوجه أخرى مرسلة، ومنها سعيد بن المسيب عند مالك، وفيه "كُلْهُ وصُمْ يوم ما كان أصابت…".
قوله في الحديث (هلكت…) أي وقعت في الإثم الذي أهلكني.
وقوله صلى الله عليه وسلم (( هل تجد ما تعتق رقبة؟ )) قال: لا، قال: (( هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ )).....الخ…….ثم قال: ((فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر….)) العرق : زنبيل، القُفَّة وهو يسع ١٥ صاعا، وذلك ٦٠ مدا، لكل مسكين مدا، لأن كل صاع فيه ٤ أمداد، فيكون فيه ٦٠ مدا، لكل مسكين مدا.
قوله (على أفقر منا؟) أي، أأتصدّق به على أفقر منا؟
(فما بين لابتيها) أي ما وسط لابتي المدينة أي وهما حرتها الشرقية، الشرقية البقيع حرة الواقم، والغربية غربية سلع وهي حرة الوبرة، والحرة أرض تعلوها حجارة سود.
(فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت) أي ظهرت (أنيابه) أي أسنانه التي خلف الرباعية.
قيل إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فدائها مهما أمكنه فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة فقد جاء هالكا وعاد مالكا كما قال الشيخ القلاش رحمه الله . وقيل ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأتيه وتلطفه في الخطاب وحسن توسله في توصله إلى مقصوده.
قال (اذهب فأطعمه أهلك) أمر لإباحة.
هذا الحديث أقرّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن جماع الصائم في نهار رمضان مهلك لعظم إثمه، فمن وجب في نهار وجب عليه أشد الكفارات، وهي على الترتيب: عتق رقبة، والجمهور على أنها يشترط أن تكون مؤمنة حملا للمطلق هنا على المقيد، في كفّارة القتل، ثم من لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يتخللهما فطر إلا لعذر، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، هذا قول الجمهور، خلافا لمالك رحمه الله، فإنه ذهب إلى التخيير في هذه الأمور الثلاثة.
وهذا الحديث يدل على جواز الأكل من طعام الكفارة لمن وجبت عليه إذا كان معصرا، ويجوز أن يتصدق به على أهله، وهذا بناء على أن الذي أخذه كان كفارة وليس صدقة، وهذا إذا كان الإنسان أعطيها كما في هذا الحديث، أم لو كان هو الذي دفعها فليس له أن يأكل منها، بل يدفعها إلى مستحقها.
وذهب الجمهور إلى أن ما أخذه لم يكن كفارة، وإنما هو صدقة والكفارة لا تسقط بالإعسار بل يبقى دينا في ذمته.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى في المشهور عنه، أن الكفارة تسقط مع العجز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رص لهذا الرجل أن يطعم التمر أهله ولم يبين له بقاء الكفارة في ذمته.
وفي الحديث دليل على أن من وقع في أمر محرم، فعليه أن يسأل أهل العلم عن حكمه. وقوله (هلكت) يدل على أنه كان عامدا عالما بالتحريم، فمن جامع ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه كما روى البخاري معلقا كما نقل البخاري عن حسن ومجاهد.
وذهب جمع من العلماء إلى أن الناسي كالعامد في ذلك.
وهل على المرأة كفارة أيضا؟؟
ذهب الجمهور على أن عليها الكفارة إن كانت مطاوعة.
وذهب الإمام الشافعي والظاهرية إلى أنه لا كفارة عليها ورجحه ومال إليه ابن قدامة، الله أعلم.
فإن كانت مكرهة فلا كفارة عليها وتلزم زوجها، ويجب قضاء اليوم الذي حصل فيه الجماع بدل اليوم الذي أفسده، فالكفارة لا تسقط القضاء لأنها عقاب على الذنب، هذا مذهب جماهير أهل العلم.
وذهب الإمام ابن حزم والإمام ابن تيمية إلى أنه لا قضاء عليه وأن ذنبه أغلب وأشد.
وقال إن رواية (( فصم يوم مكانه )) شاذة كما سبق ولا شك أن القضاء أحوط، والله أعلم.
639 - وَعَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام صَامَ عَنهُ وليه " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَقد تكلم فِيهِ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل.
حديث عائشة: (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )) أي: من مات من المكلفين وعليه صيام ( يجب عليه صيام لم يؤده).
(( صام عنه وليه )) : خبر بمعنى الأمر, أي: فليصم عنه وليه.
والجمهور ذهبوا إلى أن هذا الأمر ليس للوجوب, بل ادعى إمام الحرمين على ذلك,وإنما خالف بعض أهل الظاهر ولعله لم يعتد بخلافهم.
وقد أجاز الإمام الشافعي في القديم الصيام عن الميت وهو اختيار جمع من محدثي الشافعية.
وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة : لا يصام عن الميت.
وقال أحمد: يصام عنه النذر فقط حملا للعموم في حديث عائشة هذا على المقيد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما, وقد رواه البخاري عقب هذا الحديث الأول حديث ابن عباس رضي الله عنهما: إن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأقضيه عنها ؟ قال (( نعم, فدين الله أحق أن يقضى )).
وقد دل هذا الحديث على أن أي ميت مات وفي ذمته صيام واجب أنه ينبغي لوليه أو لقريبه -والوارث أولى القرابة- أن يصوم عنه برا به وإحسانا إليه, وهذا مختص بمن كان معذورا بمرض أو سفر ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات. وأما من مات قبل إمكان الصيام كأن يشتد به المرض أو السفر ولم يجد وقتا للقضاء فلا شيء عليه ولا على وليه.
ولا يختص قضاء ذلك بوليه, بل من صام عنه قضى ذلك عنه وأجزأ لأنه تبرع, وذكر الولي جاء في الحديث مخرج الغالب لأن الغالب وقوعه من الولي.
والقول بأنه يجزئ صوم الولي عن الميت هو جماعة من فقهاء الشافعية وعليه عامة أصحاب الحديث.
وذهب الجمهور منهم الشافعي في الجديد إلى أنه لا يصام عن الميت وإنما يطعم عنه كل صيام واجب. وذهب أهل الظاهر إلى أنه أمر للوجوب. والجمهور إلى أنه للاستحباب.
والذين ذهبوا إلى أنه يصام عن الميت اختلفوا:
فذهب من قال به من الشافعية إلى أنه يصام عنه كل صيام واجب.
وذهب الحنابلة إلى أنه لا يصام عنه إلا النذر وأما ماعداه فيطعم عنه, لحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما سبق فيحمل المطلق وهو حديث عائشة على المقيد وهو حديث ابن عباس.
وأما الذين قالوا بالعموم قالوا حديث عائشة رضي الله عنها فيه قاعدة كلية (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )). وأما حديث ابن عباس فذكر فردا من أفراد هذه القاعدة فلا تعارض بينهما, بل في حديث ابن عباس ما يدل على دخوله في عموم حديث عائشة وهي التعليل (( فدين الله أحق أن يقضى )). وأيضا قالوا: كيف يحمل حديث عائشة على صوم النذر فقط وتمنع دلالته على ما هو أكثر وقوعا. والله أعلم.
باب في قيام شهر رمضان
640 - عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: " من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتساباً غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه " مُتَّفق عَلَيْهِ
هذا الحديث متفق عليه، أخرجه الشيخان. وقد ورد أيضا: (( من صام رمضان إيمانا واحتسابا )) عندهما. وجاء أيضا في مسلم: (( من يقم ليلة القدر فيوافقها أراه إيمانا واحتسابا غفر له )).
: أي تصديقا بأنه حق وطاعة.
وقوله: (( احتسابا )) أي طلبا لمرضاة الله تعالى وثوابه لا بقصد رؤية الناس وما غير ذلك مما يخالف الإخلاص. و"الاحتساب" هو من الحسب وهو العد، كالاعتداد ؛ من العد. وقيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يعتد بعمله.
والمراد بقيام رمضان: ولو قيام يسير من الليل. ويقع ذلك بصلاة التراويح وراء الإمام كالمعتاد، ومطلق التهجد.
بل يقع أيضا بصلاة العشاء والصبح في جماعة لحديث عثمان رضي الله عنه في مسلم: (( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله )).
قوله: (( ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله )) أي مع كونه صلى العشاء، يعني صلى الفجر مع صلاة العشاء فكأنما صلى الليل كله. وليس المقصود قيام جميع ليله وإن كان الإكثار من العمل الصالح خيرا، لكن يقع قيام رمضان بأقل من ذلك.
بل جاء في حديث أبي أمامة عند الطبراني: (( من صلى العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر )) وفي إسناده ضعف.
وقد ذكره مالك رحمه الله في الموطأ بلاغا عن سعيد بن المسيب رحمه الله: (( من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها )). قال ابن عبد البر رحمه الله: "مثل هذا لا يكون رأيا ولا يؤخذ إلا توقيفا، ومراسيل سعيد بن المسيب أصح المراسيل". وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها".
بل جاء في معجم الطبراني الأوسط بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا: (( من صلى العشاء في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كأجر ليلة القدر )).
قال الإمام النووي رحمه الله: "المراد بقيام رمضان صلاة التراويح". واتفق العلماء في استحبابها واختلفوا هل الأفضل أن يصليها جماعة في المسجد كما هو قول الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، أم الأفضل أن يصليها منفردا في بيته كما هو قول الإمام مالك، والإمام أبي يوسف، وبعض الشافعية، وغيرهم.
وهذا الخلاف فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل، ولا تختل الجماعة بتخلفه. فإن فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة ؛ فالجماعة أفضل اتفاقا يعني:
1. أن يكون حافظا للقرآن ٢. أن لا يخاف الكسل إذا انفرد في البيت ٣. أن لا تختل جماعة المسجد إذا تخلف عنها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( غفر له ما تقدم من ذنبه )) ذهب ابن المنذر إلى ظاهره وهو أنه يتناول الصغائر والكبائر. وقال النووي رحمه الله: "المعروف عند الفقهاء أنه مختص بغفران الصغائر". (وقال بعضهم): "ويجوز (والله أعلم) أن يخفف عن الكبائر إذا لم يصادف شيئا من الصغائر". وقال إمام الحرمين: "كل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب فهو عندي محمول على الصغائر". أيده النووي رحمه الله بأحاديث منها: (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر )). وهذا مذهب أهل السنة كما قال القاضي عياض: "وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى".
وفي حديث أبي هريرة في صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر زيادة "وما تأخر" ، ولعل الأقرب فيها أنها شاذة فقد رواه أبو سلمة عن أبي هريرة من طرق كثيرة عنه وزيادة "وما تأخر " عند أحمد من طريق محمد بن عمرو عنه ، وكذا في مسند أحمد رحمه الله من حديث عبادة رضي الله عنه في ليلة القدر: (( من قامها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر )). وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وحديثهما حسن لكن ليسا ممن يحتمل تفرده بالزيادة على الثقات ، والله أعلم .
وليس فيها إشكال لو صحت بل هي مثل (( صوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده )). فتكفير السنة التي بعده كمغفرة المتأخر من الذنوب. فاختلف العلماء في ذلك فقيل: "إذا ارتكب معصية جعل الله ما سبق من هذا العمل الصالح وهو قيام ليلة القدر وصوم يوم عرفة كفارة، وقيل: معناه أن الله يعصمه فيما بعد عن ارتكاب الذنب. والله أعلم.
وجاء هذا الفضل في هذا الحديث في قيام رمضان ، وجاء أيضا نفسه في رواية أخرى في قيام ليلة القدر. فقد يقال أحدهما يغني على الأخر، الجواب أن قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران وإن لم يقم غيرها، أو أنه صلى الله عليه وسلم ذكر للغفران طريقين: طريق يقيني ولكنه طويل وشاق؛ وهو قيام شهر رمضان كاملا، وطريق ثان ظني تخليلي ليس يقينيا ولكنه مختصر وقصير وهو قيام ليلة القدر خاصة.
640 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه " متفق عليه، واللفظ للبخاري، ولأبي داود: " غير رمضان ".
وهو صريح في تحريم ذلك وبه صرح الشافعية وحكاه النووي في الروضة وشرح مسلم عن أصحابنا وحكاه في شرح المهذب عن جمهور أصحابنا ثم قال: وقال بعض أصحابنا يكره والصحيح الأول، قال فلو صامت بغير إذن زوجها صح باتفاق أصحابنا وإن كان الصوم حراما؛ لأن تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم فهو كالصلاة في دار مغصوبة، وقال صاحب البيان قبوله إلى الله تعالى قال النووي ومقتضى المذهب في نظائرها الجزم بعدم الثواب كما في الصلاة في دار مغصوبة انتهى.
ومن قال بالكراهة احتاج إلى تأويل قوله «لا يحل» على أن معناه ليس حلالا مستوي الطرفين بل هو راجح الترك مكروه وهو تأويل بعيد مستنكر ولو لم يرد هذا اللفظ فلفظ النهي الذي في صحيح مسلم ظاهر في التحريم، وكذا لفظ المصنف؛ لأن استعمال لفظ الخبر يدل على تأكيد النهي وتأكده يكون بحمله على التحريم والله أعلم.
قال النووي في شرح مسلم وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام وحقه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي
شاهد أي حاضر مقيم في البلد وفي معنى غيبته أن يكون مريضا لا يمكنه الاستمتاع بزوجته فلها حينئذ الصوم من غير إذنه ، والظاهر أن احتفاف القرائن واطراد العادة يقوم مقام الإذن الصريح.
ولا يحتاج في صوم رمضان إلى إذنه ولا يمتنع بمنعه وفي معنى صوم رمضان كل صوم واجب مضيق كقضاء رمضان إذا تعدت بالإفطار أو كان الفطر بعذر ولكن ضاق وقت القضاء بأن لم يبق من شعبان إلا قدر القضاء أو نذرت قبل النكاح أو بعده بإذنه صيام أيام بعينها
باب الاعتكاف
656 حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه
هذا الحديث فيه الاعتكاف، والاعتكاف في اللغة : اللزوم والمكث، وفي الشرع : المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة لملازمة المسجد، قال الله تعالى : (( وأنتم عاكفون في المساجد ))، فالاعتكاف لزوم المرء شيئا وحبس نفسه عليه برا كان أو إثما في اللغة.
وهذا الحديث فيه استحباب الاعتكاف وهو أمر مجمع عليه، وهو متأكد في العشر الأواخر من رمضان بسبب طلب ليلة القدر، فإنها عند جمع كما سبق منحصرة في العشر الأواخر، وعند جمع آخرين يتأكد كونها في العشر الأواخر من غير انحصار بها، والعشر الأواخر هي الليالي ويعتكف معها الأيام -أي النهار- أيضا، وإنما يقتصر على ذكرها في الكلام على عادة العرب.
فهو يدخل -الذي يريد اعتكاف العشر الأواخر- محل الاعتكاف قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، وذهب بعض العلماء إلى أنه يبدأ من أول النهار، والقول الأول هو قول الأئمة الأربعة، واحتج من قال بأنه يدخل من أول النهار لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه، وأجاب الجمهور بأن معناه دخل المعتكف وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا أن ذلك ابتداء الاعتكاف بل كان ابتداء اعتكافه من قبل المغرب معتكفا لابثا في المسجد، فلما صلى الصبح انفرد.
وهذا الحديث وغيره فيه جواز ذكر رمضان من غير ذكر "شهر"، وهذا قول البخاري ونقله النووي عن محققيه ولا كراهة في ذلك، وحكي عن المالكية أنه لا يقال "رمضان" على انفراده بل يقال "شهر رمضان"، وتعلقوا في ذلك بأن رمضان اسم من أسماء الله فلا يطلق على غيره إلا بقيد، وقال بعض العلماء أنه إذا وجد قرينة تصرف إلى شهر فلا كراهة وإلا فيكره، والأول هو الصواب، لأن الكراهة إنما تثبت بنهي شرعي، وأما كونه اسما من أسماء الله فليس بصحيح، لم يصح فيه شيء، وأسماء الله توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح.
وهذا الحديث يدل على استمرار حكم الاعتكاف وأنه لم ينسخ، وحكي عن مالك رحمه الله أنه قال : لم يبلغني أن أحدا من السلف على أنه أدركته اعتكف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن، وذلك لشدته، فلا ينبغي لمن لا يقدر أن يفي بشروطه أن يعتكف.
وقولها رضي الله عنها : (ثم اعتكف أزواجه من بعده) يدل على استمرار هذا الحكم وأنه لم ينسخ، وأنه مستمر حتى في حق النساء، وإن أُنكر عليهن -يعني أنكر عليهن النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في حياته- فإن ذلك كان لمعنى آخر وهو الخوف أن يكنّ غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القربة منه صلى الله عليه وسلم لغيرتهن عليه، أو كره ذلك لذهاب المقصود لكونهن معه في المعتكف، أو لتضييق المسجد بأبنيتهن، والله أعلم.
فيه الاستحباب على الخير الذي يعتاده الإنسان وأن لا يقطعه، وقد ترك صلى الله عليه وسلم الاعتكاف سنة لهذا الأمر، حين اعتكفت نساؤه معه صلى الله عليه وسلم، فقال : (آلبر يردن) فأمر بخبائه فقُوِّض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شعبان (شوال)، أي : في ذلك العام.
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين، يحتمل أنها العشر التي ترك من أجل أزواجه، فإنه في ذلك العام اعتكف عشرا من شوال ثم قضى في العام الذي بعده فاعتكف عشرين يوما من رمضان لكي يكون اعتكافه في رمضان، ويحتمل أنه سافر يوما فلم يعتكف فقضى وهذا أقرب، لأنه جاء منصوصا عليه عند ابن ماجه وابن حبان، ويحتمل أن سبب اعتكافه في العام الذي قبض فيه عشرين المبالغة في التقرب لاستشعاره قرب وفاته، كما كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين.
وفي هذا الحديث -بهذه الزيادة- جواز اعتكاف النساء، والحديث الذي فيه كراهته صلى الله عليه وسلم اعتكاف أمهات المؤمنين دل على كراهة الاعتكاف للنساء، فذهب بعض العلماء إلى ذلك، فقالوا: يكره اعتكاف المرأة إلا في مسجد بيتها، فإنها إذا صارت إلى ملازمة المسجد معه ليلا ونهارا كثر من يراها ومن تراه، جاء ذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله وعن غيره، ويستحب الحنفية أن تعتكف المرأة في مسجد بيتها، ولم يروا الاعتكاف في المسجد للنساء، ومسجد البيت هو الموضع المهيأ للصلاة فيه، هذا قول الحنفية وهو القول القديم للشافعي -قالوا : لا تعتكف إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد الجماعة- ، وحكي عن أصحاب أبي حنيفة أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها، وجوز بعض المالكية والشافعية للرجل أن يعتكف في مسجد بيته، وعبر بعضهم بأنه مجاورة وليس اعتكافا، واختلف الجمهور المشترط للمسجد العام، فقال بعضهم : يصح الاعتكاف في كل المسجد بل حتى في سطحه ورهبته، وقال آخرون : بل لا بد أن يكون مسجدا جامعا تقام فيه الجمعة، وهذا رواية عن مالك، والقول الأول هو قول الجمهور، وجاء عن حذيفة بن اليمان وعطاء بن أبي رباح تقييد ذلك بأن يكون المسجد هو المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى.
وهناك مسألة أخرى تابعة لباب الصوم والاعتكاف، وهي : هل يشترط في صحة الاعتكاف الصوم؟
فذهب مالك، وأبو حنيفة إلى أنه يشترط لصحة الاعتكاف الصوم، وذهب الشافعية، والحنابلة إلى أنه لا يشترط الصوم وإنما الاعتكاف يكون في رمضان لأجل تحري ليلة القدر ولأجل الصلاة، وأما لو اعتكف في خارج رمضان فإن اعتكافه يكون صحيحا ويكون قائما بسنة الاعتكاف. والله أعلم .
650 - وعنها قالت: " [وإن] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا " رواه البخاري.
وترجيل عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيه خدمة الزوج بالغسل والطبخ والخبز وغيرها ، وليس نصّا على ذلك بل يحتمل أن يكون في الأمر الخفيف فقط ، فلا يكتفى في المسألة بالاستدلال من هذا الحديث بل يرجع إلى الأدلة الأخرى .
باب في ليلة القدر
661 - حديث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: (( أَن رجَالًا من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُروا لَيْلَة الْقدر فِي الْمَنَام فِي السَّبع الْأَوَاخِر، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ! أرَى رؤياكم قد تواطأت فِي السَّبع الْأَوَاخِر! فَمن كَانَ متحريا فليتحرها فِي السَّبع الْأَوَاخِر )) مُتَّفق عَلَيْهِ.
هذا الحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما. لفظ مسلم: رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( َأرَى رؤياكم في العشر الأواخر, فاطلبوها في الوتر منها )). وفي لفظ عنده أيضا :(إن ناسا منكم قد أروا أنها في السبع الأُوَل, وأري ناس منكم أنها في السبع الغوابر, فالتمسوها في العشر الغوابر).
وفي لفظ عند البخاري : (أن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر, وأن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم : التمسوها في السبع الأواخر. وفي مسلم : ( من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر).
هذا الحديث فيه :
- تواطأت : تواطأت أي توافقت. كأن كلا منهم وطئ ما وطئه الآخر.
- فالتمسوها (في بعض الروايات) : أي اطلبوها.
- في السبع الأواخر : أي في الليالي الأخيرة من الشهر.
- والتحري : القصد والاجتهاد في الطلب, والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول, أي فليتعمد طلبها
- وليلة القدْر-بسكون الدال المهملة- ويجوز أيضا القدَر-بفتح الدال المهملة- : سميت بذلك لعظم قدرها لما لها من الفضائل, أي الليلة ذات القدر العظيم, أو لما يحصل لمن يحييها بالعبادة من القدر العظيم. وقيل : لأن الأشياء تُقَدَّر فيها وتُقضَى. والأول أولى لقول الله تعالى : (( ليلة القدر خير من ألف شهر )). والأخير يدل له (( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر )) وقوله تعالى : (( فيها يفرق كل أمر حكيم )). فالاحتمالان واردان مع القدر بسكون الدال. ويجوز فتح الدال (قدَر) لأنها إن سميت بذلك لعظم قدرها, فقد جاء الفتح في ذلك أيضا. وإن كانت من التقدير, فالقدَر هو ما يقدره الله من القضاء. فقال ابن العربي : هي ليلة القَدْرِ، والقَدَرُ فأمَّا الأوَّل: أي الشّرف، لفلان قدر في النّاس، يعني شرف ومزية.
وأما الثّاني: وهو القَدَرُ فهو التَّقدير، لقول الله
تعالى: (( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )) . فيُلْقِي اللهُ فيها
لملائكته ديوان العام.
فالقدَر الأقرب فيه التقدير, ولكن مع هذا
يجوز, حتى لو قلنا ليلة القدْر- بالسكون- أنه يراد به التقدير. وجوز المفسرون في
الآية -مع أنها لم تُقرأ إلا بالإسكان- المعنيين, يعني إرادة الشرف وإرادة
التقدير.
وصحح جمع كالنووي في شرح المهذب أنها بالمعنى الثاني أي ليلة الحكم والفصل, أي ليلة التقدير.
وهذا الحديث فيه فضل هذه الليلة العظيمة وذلك واضح من اسمها, ومن الأمر بتحريها. وقد بين القرآن فضلها بقوله تعالى : (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )). وخص الله بها هذه الأمة فلم تكن لمن قبلهم على المشهور. وذلك لأن الله تعالى عوّض هذه الأمة عن طول أعمار الأمم التي قبلها. وفضل ليلة القدر أمر مجمع عليه.
ثم إنه لا يتوقف حصول المغفرة لقيام ليلة القدر على معرفتها، بل لو قامها غير عارف بها غفر له ما تقدم من ذنبه لكن بشرط أن يكون إنما قام بقصد ابتغائها.
وأما ما وقع في حديث عبادة رضي الله عنه عند أحمد: (( ثم وفقت له )). ففيه شرط آخر وهو الموافقة أن يوفق لها أي: "أن يعلم أنها ليلة القدر". هكذا قال النووي رحمه الله. قال ابن العراقي رحمه الله: "بل معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قامها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك". ورد على قول النووي أن معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر. والله أعلم".
وفي هذا الحديث بقاء ليلة القدر واستمرارها وأنها لم تُرفع, وهذا هو القول المعتمد. وذهب بعضهم إلى أنها رُفعت لأنه جاء في الحديث : (( حين تلاحى الرجلان, فرُفعت )). ولكن معنى ذلك الحديث, الرفع فيه رفع بيان علم عينها, وإلا لما أمر في آخره بالتماسها.
وفي الحديث الأمر بطلبها في السبع الأواخر -وفي رواية- في أوتار العشر الآواخر. والجمع بينها أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان, في وتر من لياليها.
وقد اختلف العلماء اختلافا كثيرا في تعيين ليلة القدر. فمن ذلك
- ما جاء عن ابن مسعود والحنفية : أنها في السنة كلها. وجاء عنه رضي الله عنه أيضا تعيين أنها ليلة سبع وعشرين.
- وجاء أيضا عن ابن عمر وجماعة أنها في شهر رمضان كله, فتُلتمس في جميع الشهر. وآكده العشر الأواخر, وآكدها ليالي الوتر منها
- أيضا هناك قول ثالث أنها العشر الأواخر وهو قول الجمهور
- وقول رابع أنها تختص بأوتار العشر الأواخر
- وقول آخر أنها ليلة إحدى وعشرين, وهو قول كثير من الصحابة.
- أو أنها ليلة سبع وعشرين وهو أيضا قول كثير من الصحابة, وهو قول كثير من أهل العلم
- وذهب بعضهم إلى غير ذلك فقيل أول ليلة, وقيل آخر ليلة من رمضان, وقيل ليلة سبع عشرة, وقيل غير ذلك.
- وهذه كله تفريعات وأقوال بناء على أنها تلزم ليلة بعينها. وهو مذهب الشافعي ومن وافقه. وأنها تختص بليلة واحدة وتبقى فيها.
- وهي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين
- وذهب جماعة من العلماء إلى أنها تنتقل, فتكون في ليلة ذات سنة, في سنة من السنوات, وفي ليلة أخرى في سنة من السنوات الأخرى. وهذا قول مالك، وأحمد رحمة الله عليهما, وهو أيضا قول المزني من الشافعية واختاره النووي جمعا بين الأحاديث المختلفة في هذا الباب. فيكون الحديث الذي عندنا الآن, فالأمر بالتحدي في السبع الأواخر, أي في ذلك العام. لأنه جاء في حديث آخر : في العشر الأواخر.
- وعلى هذا القول وهو التنقل, فهي تتنقل في العشر الأواخر, عند الشافعية, عند من قال بانتقالها منهم وهو قول المزني كما سبق واختيار النووي.
- أو تتنقل في جميع الشهر وهو قول الحنابلة. وإن كانت آكد في العشر الأواخر, في ليالي الوتر منه آكد.
وعلى كل حال, فيتلخص مما سبق أنها غير معينة وأن الله أخفاها لكي يجتهد العبد ولا يتكل على يوم معين.
- ولأجل هذا ذهب بعض العلماء إلى الكف عن تحديدها والخوض في ذلك, فلا يُدرى في أية ليلة هي بالضبط, وإن كان في الغالب أنها تكون في العشر الأواخر, وأول هذه العشر الأواخر ليلة عشرين إن كان الشهر تسعا وعشرين, وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين. فقد تكون ليلة إحدى وعشرين.. وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين… هذا قول ابن حزم رحمه الله. وبناء على هذا يزداد خفاءها لأن الإنسان لا يدري هل يكون الشهر تسعا وعشرين أو ثلاثين من أوله.
وفي قوله : أرى رؤياكم تواطأت : بيان أهمية الرؤيا وعظمها والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية.
لكن لا ينبني على ذلك حكم بحيث لو خالفت دليلا فلا يعمل بها حتى لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بأمر, وكان ذلك مخالفا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام في اليقظة, فإنه يجب العمل بما ثبت في اليقظة. لأننا وإن قلنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون رآه على المنقول من صفته في الشمائل, فحينئذ تكون رؤياه حق, لكن يكون هذا من قبيل تعارض الدليلين, فيجب العمل بالأرجح. وما ثبت في اليقظة هو أرجح.
وأما هنا فقد استُنِد إلى الرؤيا في أمر ثابت استحبابه مطلقا وهو طلب ليلة القدر. ولم يكن للرؤيا إلا الترجيح بسبب هذه المرائي التي تدل كونها في السبع الأواخر, وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي. وليس منافيا للقاعدة الكلية الثابتة وهي استحباب طلب ليلة القدر. هكذا قرر هذه المسألة الإمام ابن دقيق العيد في شرح العمدة.
وبناء على تفريعنا على هذه المسألة ذكروا أنه إذا رأى شخص النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وقال له : يوم الغد هو رمضان, هل يعملون به أم لا؟ حكى القاضي عياض الإجماع على أنه لا يعملون به. والله تعالى أعلم .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم.